فاز "ترامب" بالرئاسة الأمريكية، في مشهد ربما لم يتوقعه من تابع خطاباته، ونبرته العنصرية، وشخصيته الجدلية، وما أثارته تصريحاته من قلق وفوضى، ليس على مستوى أمريكا فحسب، بل على مستوى العالم ككل!
لن أركز كثيراً على تفاصيل المشهد الانتخابي الأمريكي، فبالنسبة لي لا أرى فرقاً بين الجمهوريين والديمقراطيين فيما يتعلق بشؤوننا كمسلمين ، فما يهمهم هي المصلحة الأمريكية، ومصلحة دولة الاحتلال الصهيوني، والحيلولة دون أن يمتلك العرب والمسلمون أية إرادة حرة، أو تطور في المجالات المختلفة، بحيث تصبح دولهم قوية تعتمد على ذاتها ومواردها، وتكون صاحبة سيادة حقيقية على أراضيها وقراراتها.
ربما ما يهم أن أسلط الضوء عليه بعد الانتخابات الأمريكية، هو هل فعلاً سقطت الديمقراطية التي يتغنى بها الغرب، وصدع بها رؤوسنا مراراً وتكراراً؟
حقيقة وعيوب..
حينما نتكلم عن الديمقراطية فإننا نتكلم عن نظام يعتمد على إرادة الأمة، بحيث يكون مصدر السلطة مبنياً على إرادة الشعب العامة، فتستمد السلطة الشرعية منه، وتتكفل الحكومات بحماية الحقوق والحريات والمساواة بين الناس، ويقوم الشعب بمراقبة عمل السلطة التنفيذية داخل الدولة، ومحاسبتها بطرق قانونية مختلفة.
وكما يرى القانونيون، فإن جوهر الديمقراطية يعتمد على حكم الشعب لنفسه، وفقاً لإرادته لتحقيق المصلحة العامة .
حينما ندقق في حقيقة الديمقراطية، نجد أنها تركز على الحرية الشاملة، دون ضوابط أو قيود، وبإمكانها وباسم الشعب أن تلغي الفضائل، وتقرر الرذائل وتشرعها
والسؤال المهم الذي لابد وأن يطرح في هذا الصدد.. هل فعلاً تحقق الديمقراطية الحالية المصلحة العامة دائماً؟
حينما ندقق في حقيقة الديمقراطية، نجد أنها تركز على الحرية الشاملة، دون ضوابط أو قيود، وبإمكانها وباسم الشعب أن تلغي الفضائل، وتقرر الرذائل وتشرعها. فباسم الديمقراطية يتم قتل الأبرياء، واحتلال الدول، بل وإباحة زواج المثليين على سبيل المثال، وغيرها مما لا يرضاها عقل أو فطرة سليمة.
ومع أن الديمقراطية ليست مذهباً دينياً وإنما أسلوب حياة، فإنها لا تعني بأي حال أنها مثالية، بحيث ينبغي تطبيقها بحذافيرها في مجتمعاتنا ودولنا، كما يروج لها أصحابها.
إن الديمقراطية الأمريكية التي أوصلت "ترامب" للسلطة كشفت عن حقيقتين في بالغ الأهمية:
1- لا سلطة بلا مال أو نفوذ، فأن تصل للسلطة يعني أنك تحتاج إلى أموال كثيرة، تسخر بها وسائل الإعلام المختلفة، وتروج لأفكارك – حتى لو كانت خاطئة- للتأثير على الناخبين وتقنعهم بك، وتبنى عليه فرص الترشح والفوز بالمناصب. وما يؤكد على هذا، أن أمريكا والتي تعتبر رائدة على مستوى العالم في العلم والبحث والمعرفة، وجامعاتها تتربع على المراكز العشرة الأولى على مستوى العالم، ومع ذلك لم تقدم ديمقراطيتها إلا واحداً من أسوأ شخصياتها كممثل لها!
2- لا يمكن أن تصل للسلطة دون أن تكون منتمياً لواحد من الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري، وهذا نظير الاستبداد والديكتاتوية، فالقانون الذي يكفل لك الحرية، لن يوصلك للسلطة، إلا في حالة أن تتنازل عن حريتك لتنخرط في الحزب الحاكم أو مع منافسه!
الديمقراطية التي تقوم على المال، والإعلام تؤدي إلى توجيه الناخبين بالطريقة التي يريدها أصحاب النفوذ والأموال
فمثلاً إذا كنت تعارض قيام دولة الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين، وما تقترفه من جرائم، فإنك لابد وأن تتنازل عن ذلك، لتتناغم مواقفك مع مواقف أحد الحزبين الأمريكيين، وإلا لا يمكن أن تصل للسلطة، حتى لو كنت تملك أفضل مشروع اقتصادي وسياسي واجتماعي! لهذا لقد اعتدنا على مشاهدة المنافسة بين الحزبين الكبيرين في أمريكا، لكننا لم نشاهد مرشحاً مستقلاً حظي بثقة الناخبين ، أو حتى نافس بشكل حقيقي للمرشحين الآخرين.
وبناء على ما سبق، يمكنني أن أجيب على السؤال الذي طرحته، بأن الديمقراطية والتي تقوم على المال، والإعلام –الذي ليس حراً البتة- تؤدي إلى توجيه الناخبين بالطريقة التي يريدها أصحاب النفوذ والأموال. وهذا بدوره يفسر لنا العديد من الحالات التي وصل من خلالها الفاسدون، والحمقى، والمريضون نفسياً، كـ"ترامب" وغيره، بطريقة اقتراع نزيهة، نتيجة غياب الفهم للناخب، أو الدافع القبلي والعنصري، أو حتى شراء الذمم والمصالح الفردية الضيقة.
إذن.. لا تعني مشاركة الناس بالانتخابات شيئاً، طالما أن الإعلام ليس حراً، وأن الأموال هي التي تلعب بالخارطة السياسية الداخلية . ناهيك عن أن كثيراً من الناس يتصفون بالجهل والتبعية والاندفاعية، وسرعة التأثر والعاطفة في أحيان أخرى، دون النظر إلى برنامج المرشح أو تصريحاته وتاريخه.
لذا الديمقراطية لا تحقق المصلحة دائماً، ليس فيما يتعلق بأمريكا، بل فيما يتعلق بها كطريقة اختيار وترجيح بين المترشحين، واختيار سياسة الدولة المقبلة، التي ربما تتعارض مع الواقع وتؤدي إلى التراجع والفشل والإخفاق في المستقبل.
إن الديمقراطية في النهاية هي أسلوب حكم وإدارة، وليست نهائية أو مثالية، وإنها تحتاج لإعادة مراجعة وتقييم خصوصاً من قبل المفكرين الإسلاميين، وأصحاب الفقه السياسي، والقانون الدستوري، وأهل السياسة، للبحث في عيوبها، وكيفية صياغة نظام يحترم إرادة الفرد، ويكفل حقوقه، لكنه لا يجعل الدولة رهينة للجهلة وضحايا الإعلام والمال السياسي.أساليب الديمقراطية الحديثة، ربما تكون الأفضل حالياً، لكن هذه السلبيات كفيلة بالبحث عما هو أفضل
إن أساليب الديمقراطية الحديثة، ربما تكون الأفضل حالياً، لكن هذه السلبيات كفيلة بالبحث عما هو أفضل، وإن كان الجدل حول هذا من نافلة القول خصوصاً في ظل القتل والسجن وتكميم الأفواه التي يعيشها المواطن العربي، والتي تدفعه للكفر بالسياسة وما يتعلق بها في سبيل تأمين حياته وتوفير عيشة كريمة له ولمن يعول.