تتطور التكنولوجيا كل يوم، محدثةً صرعاتٍ مختلفة في عالم الاتصالات، الذي بدأ بالهاتف المنزلي، ثم التلفاز، وأخيراً شبكة الإنترنت وما تحوي من مواقع، وتطبيقاتٍ عديدة، دخلت كلّ بيتٍ ومؤسسة، ولازالت في تطورٍ لا يتوقف.
وأصبح الحديث فيها هو الدارج والمنتشر في مجتمعاتنا، فتغيرت تبعاً لذلك مفاهيم عديدة. فبعد أن كان الأُميّ هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، أصبح الأُميّ من لا يستطيع مواكبة وسائل الاتصال المختلفة والتعامل معها، من الهاتف النقال، إلى اللابتوب والتاب والآيباد، وما احتوت عليه من وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت تهمّ كل فرد، من الفيس بوك والانستغرام والسناب شات وغيرها، والتي سلبت عقول الشباب والمراهقين بالأخص، فتخلّوا عن نشاطاتهم الاجتماعية والمناسبات الرسمية، واكتفوا بالجلوس لساعات على هذه الأجهزة، بحجة واهية، أنهم جيل التطور والتكنولوجيا.
لقد طغت علينا هذه التكنولوجيا، وشتت بيننا، أكثر مما جمعت ، بعد أن كان الأخ يزور أخته دوماً –على سبيل المثال- أصبح لا يراها إلا نادراً، مكتفياً برسالة بريدية، أو ما شابه ذلك، متناسياً قيمة التواصل الحقيقي، فهو أساس العلاقات، وهو إحساس ينعش القلب.كما باتت أخبار العائلة تصلنا من الإنترنت، ونحن في بيوتنا، رغم المسافة القصيرة بيننا وبينهم، فأصبحنا نعيش في غربة، رغم القرب، ونفضل التواصل الإلكتروني على التواصل الشخصي بشكل أكبر .
تغافلنا وتجاهلنا تلك الأيام الخوالي، التي كانت تجتمع فيها العائلة، ويشارك الصغير والكبير في التفاعل والكلام، والحوار والنقاش، ثم أصبحت لقاءاتنا مملّة، يخيّم عليها الهدوء القاتل، فكلٌ مشغول ومنكّس رأسه لهاتفه، أو جهازه، يتفاعل ويضحك، ويحزن، متغافلاً من حوله، فلا الأب يرى أبناءه ويسمعهم، ولا الأم تشبع عينها برؤيتهم وتبادل الحديث معهم، فهم على حدّ قولهم مشغولون، بهذه الصرعات الجديدة، فيبقون ضحية للتكنولوجيا الحديثة، يعيشون مع عالم افتراضي، ينسيهم أهلهم وعائلتهم، ومحيطهم الذي يعيشون فيه.
وإن نظرنا وبحثنا عن الأسباب، فسنجد الهائل والمروع، فلا بدّ لنا من أخذ الحيطة والحذر، والانتباه الشديد، فمن المعروف أن البيت هو اللبنة الأساسية والحضن الدافئ للأبناء، ومن المحتمل أن يكون السبب الكبير هناك!
كثرة مشاكل الأبناء الأسرية، وعدم استيعابهما لمتطلبات الأبناء وسماع آرائهم، وإعطائهم الحرية للتعبير، قد تدعوهم للالتفات لعالم آخر مختلف عن هذا العالم
فوجود هذه التكنولوجيا يجعلها وسيلة إضافية مبادرة في تربية الأبناء والتأثير عليهم، حتى أنها تملك قدرة عالية في التأثير على الكبار قبل الصغار، وكثرة المشاكل الأسرية مع الأب والأم، وعدم استيعابهما لمتطلبات الأبناء وسماع آرائهم، وإعطائهم الحرية للتعبير عما يجول في خاطرهم، قد تدعوهم للالتفات لعالم آخر مختلف عن هذا العالم، فهم يطمحون للاستقرار والهدوء، وأخذ آرائهم بعين الاعتبار واحترام شخصياتهم، والسعي لإيجاد النفس التائهة في داخل البيت والأسرة.
كما أن انشغال الوالدين عن الأولاد في أعمالهما، يشتت الأسرة ويهدم العلاقات ، فلا أبٌ يحنو، ولا أم ترأف، مما يجعل الكثيرين يبحثون عن البديل، وغالباً ما يكون غير محبب. ويكون الأمر أكثر سلبية إن كان الموجه لهذا البديل، هم الأصدقاء والرفقاء الذين لا يعرف الوالدين عنهم وعن أخلاقهم شيئاً البتة!
وفي الوقت نفسه، فإن الزوجين قد يلجآن إلى التكنولوجيا الحديثة كنوع من الهروب من الواقع! واقع يخلو من الحوار والتفاهم، وتبادل وجهات النظر، وتطفو عليه المشاحنات وسوء التفاهم والعصبية، ناهيك عن الضغط النفسي أو عدم التقدير، وكثرة التذمر والشكوى. وكل هذا يدفعهما للجوء إلى عالم بعيد عن هذه السلبيات، يقضون عليه وقتهم، على الأقل بعيداً عن ضوضاء الصراخ والمشاكل وصراعات البيت، التي لا تقوى على محو ضغط العمل، ومشاكله!
الوقوع في أسر التكنولوجيا تفقد حلقات التواصل مع الآخرين، وعدم الرغبة في الاختلاط مع الناس، أو رؤيتهم والاكتفاء بالحديث معهم عبر وسائل التواصل، مما يقلل من خبرات المرء وتجاربه، ويضعف شخصيته
إن الأسباب السابقة، قد تؤدي لنتائج سلبية، فهي تفقد حلقات التواصل مع الآخرين، بالإضافة لحب العزلة والانطوائية، وعدم الرغبة في الاختلاط مع الناس، أو رؤيتهم والاكتفاء بالحديث معهم عبر وسائل التواصل، بدون مواجهة مباشرة، مما يقلل من خبرات المرء وتجاربه، ويضعف شخصيته.
لذا على كل أسرة أن تتنبّه لهذه المسألة، فتجعل له حداً لا يمكن تجاوزه، فكل ما زاد عن حده، انقلب ضدّه، وأول هذه الحلول:
1) تنظيم الوقت، وترتيبه، وجعل وقت مخصص لرؤية الناس والأقارب، بشكل مستمر، لمواجهة الناس، وتأدية واجبهم بعيداً عن وسائل التواصل، فالاتصال المباشر، يزيد من المشاعر الإيجابية ويقوّيها بين الأفراد.
2) محاولة استبدال الرسائل الإلكترونية، بمكالمة هاتفية إن كانت الزيارة غير ممكنة، فهذه الوسائل المختلفة، قربت لنا البعيد، وهذه إحدى مميزاتها الإيجابية، التي يتوجب علينا استغلالها جيداً، وعدم الانقطاع عن البعيد المغترب، وتأدية حقوق القريب.
3) لنبحث عن البديل، فهذه الشبكة الإلكترونية فيها من العلم والثقافة الكثير، لنترك ما يضرنا ويهدر وقتنا، ونلتفت للمفيد، فكم من مواقع إلكترونية قد سهلت عملية التعلم، وجعلتها عن بعد، (أي عبر الانترنت)، وكم من مواقع احتوت على العديد من المعلومات المفيدة التي نحتاجها دوماً، فلنتعلم المفيد، ولننقل هذه الإفادة لغيرنا.
4) تعزيز الحوار الأسري، مع الزوجة والأبناء، ومشاركتهم في اهتماماتهم، والحرص على تقوية العلاقة الأسرية، ومعالجة كل الظواهر السلبية التي تظهر عليها، فالحقيقة أنه لا يوجد بيت خالٍ من السلبيات والمشاكل، لكن أن يستسلم المرء لها، ويهرب من الواقع، يعتبر تعميقاً للأمر، وزيادة في السلبية التي لابد من محاربتها.
5) لا تغفل أهمية التواصل الشخصي، فكم من طاعنٍ في السن، يتمنى رؤية أبنائه حوله، وكم من امرأة تغرّبت عن أهلها تتمنى زيارتهم لها، وكم من أمّ تحب زيارة أبنائها لها، فتجد في زيارتهم متعة لا تساوم، وكم من مريض وحيد، يحب رؤية أصدقائه وتبادله معهم الحديث الممتع، وكم وكم وكم..!!
فلا تتردد في إدخال الفرح والسرور للغير، ففيها من الأجر العظيم، الذي ربما يبدو هيّنا لكنه عند الله عظيم، بادر من نفسك، وابتعد عن هذه الملهيات، التي تجعلك أسيراً لها، لذا تحرر ثم اسع للاعتدال.