تثار بين حين وآخر في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، قضية أميته عليه الصلاة والسلام، وهل كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب أم أنه حقاً تعلم القراءة والكتابة؟!
وأجد أنّ هذه المسألة في غاية الأهمية وعلى المسلم أن يكون حذراً وفطناً حتى لا يُؤتى من قبله فلا يمس الإسلام رسالة ورسولاً من الثغرة التي هو مرابط عليها قيد أنملة.
فالمسلمون متفقون على أمية النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، إذ هناك إجماع على ذلك، إلا أنّ عدداً قليلاً ذهب إلى أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن تعلم القراءة والكتاب(1).
ويطل علينا فريق ثالث لا علاقة له بأصول العربية ليملوا علينا ما تحوكه عقولهم الماكرة وأنفسهم الخبيثة ويستميتون بدفع الأمية عن نبي الأمة وعلى رأسهم بلاشير(2) ووات(3) وقد تلقف هؤلاء أدلة علمائنا في استدلالهم على تعلمه - صلى الله عليه وسلم- بعد البعثة(4).
ويأتي من أبناء جلدتنا من يسير بركبهم إما سذاجة وعن حسن نية فتأخذه الحمية ليدفع عن النبي الكريم الأمية وكأنها منقصة يستميت لنفيها، وإما عن سوء طوية ممن تربى على موائدهم وتشرب أفكارهم مقتفياً آثارهم في الطعن برسول الإسلام.
وحتى يطمئن القارئ الكريم والغيور على هذا الدين وتزول الغشاوة عن أعين السذج فتبصر من جديد أنّ كلمة أميّ حسب ورودها في المعاجم تحمل عدة معانٍ(5): أمي نسبة إلى أمة العرب التي لا تكتب ولا تقرأ، كما أنها نسبة إلى أصل الولادة من الأم على الجبلّة الأولى، كما أنها تعني الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب.
ومنذ اللحظة الأولى والقرآن الكريم يؤكد على أمية النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى سبيل المثال قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [سورة العنكبوت: آية48]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [سورة الأعراف:آية157] (6)،بل إنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلن عدم صلته بالقراءة والكتابة وينفي عن نفسه علمه بهما بقوله في صريح العبارة: "إنّا أمّة أميّة لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا"(7).
أي فائدة قد يجنيها شخص ينكر معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة والكتابة أو أن يخفي ذلك لا سيما في مجتمع كمجتمع مكة في ذاك الزمان، فهل كان من الممكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخفي ذلك عمن حوله؟!
وحديثه المشهور عندما جاءه الملك في غار حراء فقال له: "اقرأ فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد ثم أرسلني..."(8).
فأي فائدة قد يجنيها شخص ينكر معرفته بالقراءة والكتابة أو أن يخفي ذلك لا سيما في مجتمع كمجتمع مكة في ذاك الزمان، فهل كان من الممكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخفي ذلك عمن حوله؟! ولو كان النبي قارئاً أو كاتباً أما كان من الأولى أن تكون هذه حجة المشركين الأوائل في الطعن بدعوته ورسالته؟! لكن ذلك لم يحدث بل إنّ المشركين لعلمهم بأميته كان ردهم كما جاء في كتاب الله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [سورة الفرقان: آية5].
إنّها لحكمة جليلة وغاية عظيمة أن ينشأ النبي ويموت على ما نشأ عليه من عدم معرفته بالقراءة والكتابة، وما كان ذلك منقصة ولا عيباً ليجعلنا نتحرج منه أو نثبت له ما ليس فيه بدعوى الدفاع عن شخصه
إنّها لحكمة جليلة وغاية عظيمة أن ينشأ النبي ويموت على ما نشأ عليه من عدم معرفته بالقراءة والكتابة، وما كان ذلك منقصة ولا عيباً ليجعلنا نتحرج منه أو نثبت له ما ليس فيه بدعوى الدفاع عن شخصه وهو العظيم شأنه المحمود في الأرض والسماء، وإنه لفخر للإنسانية أن ينتمي إليها رجل مثل محمد - صلى الله عليه وسلم- بالرغم من أميته يرويها الهداية ويخرجها من ظلمات حالكة إلى النور الساطع المبين، بل عظيم الفخر للإنسانية أن تنتمي هي للنبي الإنسان محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي عجز أرباب العلوم على مختلف أنواعها أن يقدموا ولو جزءاً بسيطاً من الذي أحرزه محمد - صلى الله عليه وسلم- في حقها ومن أجلها.
وأبرز ما تتجلى به الحكمة من أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي لم تتعارض يوماً مع فصاحته وبلاغته وحكمته(9):
أولاً: قطع أسباب الشك والريب على ضعاف البصر والإيمان إذ لو كان النبي يقرأ لوجد الشيطان مدخلاً لقلوبهم وعقولهم وألقى إليهم بأنّ هذا القرآن من تأليفه وليس وحياً من عند الله.
ثانيا: أنّ المعلم الوحيد للنبي الكريم هو الله عز وجل، إذ لم يقبل الله أن يكون معلم صاحب هذه الرسالة السماوية بشراً أياً كان، ويشير الله تعالى إلى هذا الفضل في قوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [سورة النساء: آية113].
ونسوق بعضاً من شهادات غير المسلمين الذين أجرى الله الحق على ألسنتهم وأقلامهم ليشهدوا شهادة حق يتحقق فيها القول: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) [سورة يوسف:آية26].
يقول توماس كارليل(10)تحت عنوان "محمد لم يعلمه بشر": "ثم لا ننسى شيئاً آخر، وهو أنه لم يتلقَ دروساً على أستاذ قط، وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب. ويظهر لي أنّ الحقيقة: هي أنّ محمداً لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلمه هو عيشة الصحراء وأحوالها، وكل ما وفق إلى معرفته هو ما أمكنه أن يشاهد بعينيه، ويتلقى بفؤاده من هذا الكون العديم النهاية"(11).
وهذا أيضاً ما ذهب إليه الكونت هنري(12): "لأن محمداً ما كان يقرأ ولا يكتب بل كان كما وصف نفسه مراراً نبياً أمياً وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس لأنّ حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان على أنّ القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار"(13).
ويقول في ذلك نصري سلهب(14): "إنّ محمداً كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. فإذا بهذا الأمي يهدي الإنسانية أبلغ أثر مكتوب حلمت به الإنسانية منذ كانت الإنسانية ذاك القرآن الكريم، الكتاب الذي أنزله الله على رسوله هدى للمتقين"(15).
إنها شهادة حق أجراها الله على لسان رجل نصراني، نطق بها لينصف بها نبياً طالما نالت من شخصه الكريم أقلام الطاعنين وشبهات القادحين لتكون حجة عليهم إذ هي أدعى لردهم ولا سيما أنها تخرج من أفواه أبناء جلدتهم وديانتهم.
______________________________
الهوامش:
(1) انظر: اسحاق، علي شواخ، ماذا حول أمية الرسول صلى الله عليه وسلم،ص62.
(2) ريجي بلاشير مستشرق فرنسي، معروف بإطلاعه العميق على اللغة العربية و الأدب.
(3)هو وليم مونتجري وات، مستشرق معاصر بريطاني الأصل، عمل عميدا لقسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرا، شكك في القرآن، والوحي، وتركزت اهتماماته الأساسية في مجال السيرة النبوية، من مؤلفاته: " محمد في مكة " و "محمد في المدينة "
(4) انظر: شايب، خضر، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الاستشراقي المعاصر، ص393.
(5) انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة أمم، ج1ص112. الفيروز ابادي، القاموس المحيط، مادة أمّة، ج4ص77.
(6) يستطيع القارئ العودة لكتب التفاسير حول هذه الآيات لا سيما تفسير القرطبي، فتح القدير، تفسير المنار، وتفسير الكشاف.
(7) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي r: "لا نكتب ولا نحسب"، حديث رقم1913، ص216.
(8) البخاري، صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب أوّل ما بدئ به رسول الله r من الوحي الرؤيّا الصّالحة، حديث رقم6982، ص813.
(9) انظر: المطعني، عبد العظيم إبراهيم محمد، افتراءات المستشرقين على الإسلام، ص192_193.
(10) توماس كارليل كاتب اسكتلندي وناقد ساخر ومؤرخ ولد عام 1795م، من مؤلفاته: "الثورة الفرنسية" و"الأبطال وعبادتهم" ويعد هذا الكتاب دراسة أدبية وتاريخية للبطولة اختار كارليل لعرضها وتحليلها أرقى النماذج الإنسانية، ومن ضمن هذه النماذج اختار البطل نبياً محمد.
(11) كارليل، محمد المثل الأعلى، ص63..
(12) هو الكونت هنري دي كاستري: مقدم في الجيش الفرنسي، قضى في الشمال الأفريقي ردحاً من الزمن. من آثاره: "مصادر غير منشورة عن تاريخ المغرب" و "رحلة هولندي إلى المغرب" و "الأشراف السعديون".
(13) كاستري، الإسلام خواطر وسوانح، ص15_16.
(14) نصري سلهب مسيحي من لبنان، يتميز بنظرته الموضوعية وتحريه للحقيقة المجردة، كما عرف بنشاطه الدؤوب لتحقيق التعايش السلمي بين الإسلام والمسيحية في لبنان، من مؤلفاته: "لقاء المسيحية والإسلام" و"في خطى الحبيب".
(15) سلهب، لقاء المسيحية والإسلام، ص94.ِ