عندما يكون الحديث عن الطموح والتطلعات، تجد كتب تطوير الذات والتنمية البشرية حافلة بالتحذير من استصغار الذات وتوجيه الرسائل السلبية إلى النفس وترسيخها في العقل الباطن. والحق أنه لابد من التنبيه أيضا إلى ضد ذلك، مما لا يقل عنه خطرا إذا زاد عن حدّه: وَرَم الذات وتضخمها في عين صاحبها.
فكم ترى حين يُعلَن عن مسابقة في الكتابة – مثلا – من يأتي بكتابات ألطف ما يقال عن مستواها أنها لا تليق بطالب في الابتدائية، وصاحبها يرى أنها لا تحتاج إلا "لتعديل بسيط"! والأعجب صِنْف آخر لا يلتفت لدروسه طوال العام، ثم إذا قَرُب الامتحان وتذكر أنه معدود ضمن الطلبة، تقدم للامتحان بثقة تصل إلى حَد الغطرسة، وهو يؤكد بغرور أنه تعلم في مدرسة "أجنبية"، ومستواه جيد بحمد الله، ولولا بقيةٍ من تواضع لقال إنه ممتاز! ثم تتكشف النتائج الباهرة عن أصفار مدورة، وعلامات حمراء تهبط على الأوراق مدرارا!
إن المصابين بتضخم الذات، يرسمون حول أنفسهم هالة من العظمة هم منها خَوَاء. ويُسْبِغون على أنفسهم من التفوق ما أيديهم منه صِفْر خائبة
وليس هذا من باب التقليل من تطلعات الهمة أو التهوين من الطموحات، كلا. وإنـما التذكير بمقولة رددناها كثيرا حتى صرنا لا نتفكر فيها إلا قليلا: "رَحِم الله امرءً عَرَف قدرَ نفسِه". فالحاصل أن المصابين بتضخم الذات، يرسمون حول أنفسهم هالة من العظمة هم منها خَوَاء. ويُسْبِغون على أنفسهم من التفوق ما أيديهم منه صِفْر خائبة.
إن كل رسالة إيجابية للنفس، لابد لها من دعائم تستند إليها وعمل يشد أزرها، وإلا تهشمت عند أول اختبار ، وأورثت كثيرا من الإحباط وخيبة الأمل، ربما فاقا في تأثيرهِما الهدَّام تأثيرَ الرسائلِ السلبية. والأدهى أن تكون مدخلا لعُجب الإنسان بعمله، ورضاه عن نفسه فلا يراها تحتاج مزيد تهذيب وتنمية، بل واغتراره بما يفتح الله عليه، فلا يراه فضلا من الله ولا ينسب التوفيق إليه سبحانه، بل يحسب أنه أوتيه استحقاقا وكَرامة، كما قال قارون {إنّما أُوتيته على عِلم عِندي} [القصص: 78]! ويرحم الله سيدنا عمر بن عبد العزيز لما عَرضوا عليه أن يُدفن عند الروضة النبوية، كان جوابه "والله لأن يعذبني اللهُ عز وجل بكل عذابٍ إلا النار، أحبُّ إليّ من أنْ يعلمَ أنني أرى نَفْسي أهْلاً لذلك!" (فصول من تاريخ المدينة المنورة - علي حافظ).تُرى، هل تتعارض الطموحات الكبيرة والعزائم العالية مع ما سبق من التحذير من تضخم الذات؟ الجواب هو نعم ولا!
نعم تتعارض: حين لا تعدو هذه الطموحات وتلك الآمال كونها أمانيّ كاذبة وأحلام يقظة، لا يصاحبها عمل ولا يساندها جُهد، وحين تكبر العزائم والهمم صغيرة، وتعظم الأماني والجهد المرادف لها في حجم البِلْيَة، وحين يُكتفى بالتخيلات والصور الذهنية حتى تتحول إلى قصور يعيش فيها أصحابها، ناسين أو متناسين أنها قصور في الهواء محمولة على أجنحة الخيال، ومآلها حتما إلى زوال إن لم تتبعها الفِعَال.
فكيف بمن يتمنى على الله الأماني ويدعو بالفردوس الأعلى ويرجو صحبة النبي ﷺ في الجنة، وهو متكاسل عن الواجبات الأوّليّة كالنهوض لصلاة الفجر، أو متثاقل عن تلاوة القرآن؟ ثم إذا كان طلب العلم صعبا، والصيام مجهدا، وبر الوالدين متعبا، والصلاة على وقتها التزام شديد، والقيام في البرد جهد جهيد، فأي سباق نحو الجِنان هذا؟!
ولا تتعارض تلك مع تلك، حين يصحب الكل عمل دؤوب وهمة ذاتية وصبر جميل. فليس العائق المستوى الذي أنت فيه، ولا المانع المستوى الذي تريد الوصول إليه، طالما حددت وجهتك على بصيرة كما سيتضح فيما يلي؛ وإنما الشأن كله في الكيفية والهمة اللتين تنوي بهما قطع المسافة بينهما، إن كنت فعلا تنوي ذلك. فكم من مرة – مثلا - يبينُ أستاذ لطالب أخطاءَ القواعد والأسلوب، ويزوده بمراجعَ متاحة على الإنترنت، لو أنه عمل بها لتحسن المستوى بدرجة ملحوظة. لكن ذلك الطالب لا يرى إلا مستواه الحالي وأحلامه المستقبلية، ولا يفكر أبدا في مسألة المسافة بينهما، فتكون النتيجة أن تظل تطلعاته أمانيَ، ويظلَّ مستواهُ متجمدا عند درجة لا يتعداها.
الذي ينتظر اللحظة المواتية غدا والظروف المكتملة لاحقا، ويهدر طاقته في التحسر والتسخط على ما كان أو لم يكن، فليس ببالغ شيئا الآن أو غدا
في كتابه القيم "جَدِّد حياتك" يقول الشيخ محمد الغزالي: "إن المجدَ والنجاح والإنتاج تظل أحلاما لذيذة في نفوس أصحابها، ولا تتحول لحقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من رُوحهم، ووَصُولوها بما في الدنيا من حِسّ وحركة". وفي ذلك القول كل الصحة، فليس منا إلا وله في دنيا الأماني والتطلعات صولات وجولات، ولكن تظل أرض الواقع هي المحك والفيصل بين الخيالات الحالمة والإنجازات الفعلية . ويظل الحالمون كثرة، والمنجزون قلة. والحد الفاصل بين الفريقين ليس في الأحلام ذاتها، ولكن فيما يتخذون من خطوات جادّة لتحقيقها، في ضوء ما توفر، فالخطوة تدل على أختها. أما الذي ينتظر اللحظة المواتية غدا والظروف المكتملة لاحقا، ويهدر طاقته في التحسر والتسخط على ما كان أو لم يكن، فليس ببالغ شيئا الآن أو غدا.
سبحان الله، وهل يمكن للبنيان أن ينبثق من أعماق الأرض ويرتفع من تلقاء نفسه حتى عَنان السماء، بغير أن يشيده مشيد أو يبنيه بانٍ؟! ثم إن مالك الملك كله ومن بيده خزائن الفتح أجمع، في كل وقت دائما قريب مجيب كما وعد جلّ وعلا، ولا يمنع عطاياه عن عباده إلا من تولى وتوانى. فهل جربنا أن نحسن أولا ثم نحتج ثانيا؟ حتى إن الجنة التي لا يدخلها أحد إلا برحمة الله تعالى، تُقرَن في القرآن بالعمل الصالح والسعي الجاد: {وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [الزخرف: 72]، {سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32]. وفي الحديث: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" [رواه البخاري].