نِعَم الله السابِغة: هل لها من شُكُور؟
ألم تتفكر يومًا في آلاف المشردين حول العالم، الذين لا حظ لهم من أبسط مطالب الحياة الإنسانية الكريمة، بل لعل بعضهم يُمضي سحابة يومه بحثًا عن قُوتِ يسدُّ رَمَقه، في حين أنك تتمتع برفاهية التعلم وأسباب طلبه، آكل شارب نائم قائم في مسكن آمن، ألا تستشعر ثِقَل هذه الأمانة؟ أنك ولدت بامتيازات أسبغها عليك وضع لم يكن لك فضل في تحصيله، فلا أقل من أن تشكر تلك النعم علّها أن تدوم؟
إن من صميم شكر الله تعالى لكل نعمة وهِبَة تفضل بها علينا، هو استثمارها فيما خُلقت له وفيما تنفع به. وجحود ذلك الفضل لا يكون فقط بسوء استغلال النعم، بل كذلك بإهمال أمانتها وإهدار طاقتها.
فمن السهل أن نتهم التجار والباعة بخيانة الأمانة والتطفيف في الميزان، ولكن من ذا الذي قَصَر الغش والخيانة على المال والتجارة؟
أليس كل من يُعطى مُهَمَّة، أو تُوكَل إليه وظيفة، أو يُحَمَّلُ مسؤولية، ثم لا يؤديها على وجهها الأمثل ما استطاع، يكون خائنا للأمانة وغاشًّا لمن ائتمنه؟ والذي يؤتى نعمة ثم لا يستعملها على وجهها، يكون كمن حُرِمها. ومن ذلك الصحة والفراغ، فأين من يأخذهما بحقهما في عصر التواصل المفتوح وسيل الدردشات المتدفقة والكم الهادر من المسلسلات والبث المفتوح، وقِس على ذلك عديداً من الأمانات المهدرة ونحن عنها في تلاهي!كم في العالم من حروب وأنت آمن، وكوارث وأنت سالم، ومجاعات وأنت شبعان، ومرضى وأنت معافى، ومغتربين وأنت بين أهلك . مع كل هذه النعم، فيم اختلفت عنهم؟ إذا كانت ظروفهم قعدت بهم – بل فيهم من قهر كل تلك الصعاب - فكيف بك أنت بين كل هذه الامتيازات التي وُلدت بها، دون أن يكون لك فيها فضل؟ ألا ترى أنها أمانة في عنقك أنت عنها مسؤول وعليها محاسب؟ وكلما كثرت الامتيازات ارتفع ثمن الحساب! فلا أقل من أن تؤدّي شكرها بأن تمد يدك للمحرومين مما أوتيت، وتنفع من تستطيع بما مَلّكك الله من نعمه.من صميم شكر الله لكل نعمة تفضل بها علينا، هو استثمارها فيما خُلقت له وفيما تنفع به. وجحود ذلك الفضل لا يكون فقط بسوء استغلال النعم، بل كذلك بإهمال أمانتها
لا تملأ الأكواب بالماء
"يُحكى أن قرية أوشكت أن تحدث فيها مجاعة، فجمع الوالي أهل القرية، وأخبرهم بأنه سيضع قِدرًا كبيرًا في وسط القرية، وأن على كل فرد أن يضع في القِدر كوبًا من اللبن، بحيث تُسعفهم هذه القِدر في دفع خطر الجوع حتى انقضاء الأزمة. واشترط عليهم أن يضع كل واحد كوبه في خفية بالليل. هُرِع الناس لتلبية طلب الوالي، وتَخفَّى كل منهم بالليل وسكب ما في الكوب الذي يخصه. وفي الصباح فتح الوالي القدر، وفوجئ بالقِدر وقد امتلأ بالماء! لقد وضع كل فرد من الرعية كوبا من الماء توفيرا للبن، قائلا لنفسه: "إن وضعي لكوب واحد من الماء لن يؤثر على كِمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل القرية!".
المشكلة أن كل واحد منهم اعتمد على غيره، وكلّ منهم فكر بالطريقة نفسها التي فكر بها الآخر، وظن أنه هو الوحيد الذي سكب ماءً بدلاً من اللبن! والنهاية لن يصعب تخيلها!
الاختلاف بين من أخذوا الحياة بقوة ومن مرّوا بها مرور الكرام يتمثل في صدق الإرادة وهمة العزم التي تدفع لطلب تلك المعالي وتصبّر على المشقة
حين تملأ كوبك بالماء اعتماداً على أن غيرك سيأتي باللبن، تكون كمن قضى يومه جالسا على درج السُّلم منتظرا إصلاح المِصعد! العمر يمضي، والوقت يمر ولا يلتفت. فرصة واحدة هي كل ما تملك، سواء قضيتها في خُمول وتبطل، أو في همّة وعمل. والاختلاف بين من أخذوا الحياة بقوة ومن مرّوا بها مرور الكرام ليس حقيقة في توافر القوة ولا العلم ولا الجاه والسلطان، وإنما في صدق الإرادة وهمة العزم التي تدفع لطلب تلك المعالي وتصبّر على المشقة في الطلب. أولئك الذين يملؤون الأكواب باللبن في حين يملؤها الآخرون بالماء.
في البدء كانت الخُطوة!
العائق الأكبر أمام البدء في العمل هو التكاسل عن اتخاذ الخطوة الأولى ، وسبب استثقال الخطوة الأولى يعود في الغالب لاستصغارها. لكننا حين نتأمل وصيّة المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكم ومُحقَّراتِ الذُّنوبِ فإنّهن يجتمعنَ على المرء حتى يُهْلِكْنه" (متفق عليه)، نجد فيه تقريرا لحقيقة أن الكبير ليس إلا صغيرا متراكما. والخطوة الأولى – على صغرها – تستتبع ثانية وثالثة ورابعة. فالمواظبة على قدر من الإنجاز وإن قل، هو المفتاح لتحقيق أي شيء على الإطلاق.وقد قرأت مرة مقولة طريفة، مفادها أن "أفضل الوسائل لتصل لفكرة جيدة هي أن يكون لديك الكثير من الأفكار". تُرى، من أين تأتي الأفكار؟ وهل التركيب الدماغي لأصحاب الأفكار المتجددة مختلف عن سائر البشر مثلا؟ أم ما ذاك الذي يجعل القادة سادة والمجددين رائدين؟ إنها: "التراكمية".
شخصك الحالي هو محصلة تراكم تربوي ومعرفي في السنين الماضية. وشخصك المستقبلي ما هو إلا تراكم ما ستجمع إليه في هذه السنين الحالية من لَبِنات جديدة
شخصك الحالي الذي وصلت له في هذه السن هو محصلة تراكم تربوي ومعرفي في السنين الماضية. وشخصك المستقبلي ما هو إلا تراكم ما ستجمع إليه في هذه السنين الحالية من لَبِنات جديدة. إن لم تضف لشخصك شيئا الآن، ولم تبن بيدك لَبِناتٍ في زهرة العمر وفورة الشباب وربيع الحياة، فسيظل البناء عند تلك التراكمية الأولى -التي إلى حد كبير كان لوالدِيْنا وللعوامل الخارجية عنا أثر فيها بنسبة أكبر منا-، ويصير مكان اللَّبِنات المنتظرة فجوة خاوية لم تُملأ. ولذلك تجد أناسا يتقدمون في السن لكنهم لا يمضون قُدُما في المدارك، ويمضي بهم العمر وهم غير ناضجين كفاية.