في كل عام، تنير أيامنا هذه الذكرى العطرة، ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، الذي حرص على هدايتنا، وإنارة الطريق لنا، وإخراجنا من الظلمات إلى النور، رغم كل ما لاقاه من أذى ومتاعب ومشقة، فهو كان حريصاً على أمته؛ لتحقق مرضاة الله تعالى، وتقوم بدورها بعبادة الله عز وجل وتحقيق معنى الاستخلاف على هذه الأرض.
في كل عام، تعود هذه الذكرى الطيبة لتبث فينا الشوق لمن علينا أن نحبه أكثر من أنفسنا وأهلينا، وأن نبذل ما في طاقتنا للاقتداء به واتباع هديه والتمسك بالقرآن الذي أنزله الله عليه، وما ورد عنه من سنة وهدي شريف.
في هذه الأيام، وأمتنا تعاني ما تعانيه من المحن والنكبات، والمصاعب والعراقيل، وما يحاك ضدها من مؤامرات، حري بنا أن نعود لسيرته العطرة، لا لنتغنى بها، أو ننظم بها شعراً وقصائد، وإنما لنعمل ونقتدي بها ، امتثالاً لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} [الأحزاب:21].
وإن هذه التحديات التي تواجه أمتنا، تحتاج إلى عمل منظم، يواجه مكر هذه المؤامرات، ويرفع رايتها، ويحقق لها النصر. ولا يمكن أن ننتصر أو نتقدم دون رجوع إلى معين سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينضب .
وإذ تعتبر السيرة النبوية مليئة بالمواقف والدروس المستفادة، فإنني أسلط الضوء في مقالتي هذه على خمسة أمور، ينبغي التوقف عندها، والاستفادة منها.
الشورى
حينما نتكلم عن الشورى، فإننا لا نتحدث عنها كأمر تجميلي، بل كمنهج حياة تقوم عليه ابتداء من الأسرة، وانتهاء بالجماعات الدعوية والأحزاب ونظام الحكم في الدولة
حينما نتكلم عن الشورى، فإننا لا نتحدث عنها كأمر إضافي أو تجميلي، بل كمنهج حياة تقوم عليه ابتداء من الأسرة، وانتهاء بالجماعات الدعوية والأحزاب ونظام الحكم في الدولة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه، ودائماً ما كان يقول لهم: "أشيروا علي أيها الناس"، ليس ضعفاً منه، فهو المؤيد بالوحي، وهو المنصور مهما عظمت الخطوب والمحن، إلا أنه أراد أن يؤصل في الأمة هذا المنهج، حتى تفلح وتفوز وتنتصر.
لم يعنّف النبي صلى الله عليه وسلم أحداً أشار عليه برأي خلاف ما يراه ، فهو الذي أعطى لكل امرئ من جماعة المسلمين الحق في إبداء الرأي، لأنه أراد أن يعمم مبدأ المسؤولية في جميع الأفراد، فالنصر والعزة، لا يعود على فرد أو طبقة ما، وإنما على المجتمع ككل، وكذلك الهزيمة والخسارة.لقد كانت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، سبباً في تعزيز ثقة أصحابه بأنفسهم، وتنمية الإيجابية فيهم، فلم يضطربوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فساروا على خطاه بالتشاور والرضا، حتى سقطت أعظم دولتين في ذلك الوقت بعد وفاته بخمس سنوات!
ولهذا كان أهل العلم يؤكدون على الشورى، ويبينون محاسنها. فهذا عمر بن العزيز رحمه الله يقول: (إن المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم).
ويقول ابن العربي: (الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا).
ليس معنى التشاور هو فقط الموافقة كما يفهمه البعض، بل هو تبادل وجهات النظر، وبيان أدلتها، والحوار للوصول إلى أفضلها، وإلا كان صورة تجميلية للديكتاتورية والاستبداد
وليس معنى التشاور هو فقط الموافقة كما يفهمه البعض، بل هو تبادل وجهات النظر، وبيان أدلتها، والحوار للوصول إلى أفضلها وأحسنها، وإلا كان صورة تجميلية للديكتاتورية والاستبداد.
التخطيط والإعداد
كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التمهل ويحذر من التعجل ، فقال صلى الله عليه وسلم: "التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة" (رواه أبو داود بسند صحيح).إن النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمنا أن النصر والتمكين لا يمكن أن ينال بسرعة، وإنما يحتاج إلى تخطيط وتجهيز، وإعداد وصبر، وإلا كان حلماً أو سراباً لا يمكن أن يتحقق.
كان عليه الصلاة والسلام، يخطط لكل أموره، ولم يكن يركز على جانب واحد وينسى الباقي، فهو حينما اشتدت عليه الأمور في مكة، أرسل بعض أصحابه للحبشة ليأمنوا على دينهم وأنفسهم هناك، وبقي هو يعرض نفسه على القبائل، حتى أكرم الله أهل المدينة من الأوس والخزرج بمبايعته.
وكان صلى الله عليه وسلم، يخطط لمعالجة كافة الأمور المترتبة على ما يواجهه المجتمع، فهو شرع المؤاخاة، بين المهاجرين والأنصار، كعلاج لمشكلة أولئك الذين خرجوا عن ديارهم رغماً عنهم. وكتب وثيقة المدينة والتي تعتبر أول وثيقة دستورية؛ لينظم أمور المجتمع الذي يضم قبائل وأدياناً مختلفة، ورسخ فكرة الأمة متجاوزاً فكرة القبلية والعشائرية. ثم جهز الجيوش، وأعد السرايا كنواة للجيش الإسلامي، للتجهز للمعارك، وكانت له عيون أو ما نسميه بوقتنا الحالي بـ"المخابرات". وخطط للاستقلال الاقتصادي عن اليهود، فأسس سوقاً خاصة بالمسلمين، وغير ذلك من الأمور التي تدل على بعد نظر للمستقبل.
لم يكن الرسول عليه السلام اتكالياً لا يراعي متغيرات العصر، بل كان له بعد نظر، يضع الرؤى والسياسات، ويعد العدة قبل الخوض في أي أمر من الأمور
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم اتكالياً كحال بعض الناس اليوم، لا يراعي متغيرات العصر، ولا المستجدات الحديثة، فينظر إلى المجتمع بنفس الطريقة التي رآه فيها قبل ثلاثين أو أربعين سنة، بل كان عليه الصلاة والسلام له بعد نظر، يضع الرؤى والسياسات، ويعد العدة قبل الخوض في أي أمر من الأمور.
الثقة والتفاؤل
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن ويكره الطيرة. (حديث صحيح رواه ابن ماجه). وكانت لديه ثقة بربه، ويزرعها في نفوس أصحابه.
وهذه الثقة لم تكن إلا نتيجة توكله على الله، وإيمانه بالنصر بعد أن قدم ما عليه من إعداد وتجهيز. ومن ينسى مشهد الخندق، حينما كانت الأحزاب تسعى للقضاء على المسلمين، وبلغت القلوب الحناجر، والمسلمون يستعدون لذلك وهم أقل عدد وعدة، ثم يبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحفرون الخندق بأن الله سيفتح عليهم الشام والعراق واليمن!
هناك فرق بين الثقة والتفاؤل وبين التخدير، فالتخدير أن لا أعمل ولا أخطط، ولا أسعى لتحقيق أهدافي، ثم أبث في الناس روح الانتصار، والأمور تسير من سيء إلى أسوأ. في حين أن التفاؤل والثقة يكونان بعد أن تبذل جهدك وتستفرغ وسعك
هناك فرق بين الثقة والتفاؤل وبين التخدير، فالتخدير أن لا أعمل ولا أخطط، ولا أسعى لتحقيق أهدافي، ثم أبث في الناس روح الانتصار، والأمور تسير من سيء إلى أسوأ. في حين أن التفاؤل والثقة يكونان بعد أن تبذل جهدك وتستفرغ وسعك، ثم تتوكل على الله، وتحسن الظن به، فالله لن يضيع ما قدمت.
أما التشاؤم الدائم، رغم ما يقدمه المرء من جهد وتضحيات فليس بمنهج صحيح، ولا يمكن أن يكون اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحليمي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله على كل حال).
وقال الماوردي: (أما الفأل ففيه تقوية للعزم وباعث على الجد ومعونة على الظفر).
ولم يزرع النبي صلى الله عليه وسلم التفاؤل في نفوس أصحابه فحسب، بل تعدى ذلك ليبثه لمن بعده، فقال صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض" (حديث صحيح رواه الإمام أحمد والحاكم).
توزيع المهام
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسعى لأن يجعل نفسه مسؤولاً عن كل شيء، كما يحدث اليوم، حيث يحرص البعض على جعل كل الأمور بأيديهم، وينصبوا أنفسهم أو من يحبون مسؤولين عما لا يطيقون من الأعمال والمسؤوليات!
لقد كان رسول الله يعزز في نفوس أصحابه رضي الله عنهم، المسؤولية، وتولي المهام ، فهو أرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه ليعلم أهل المدينة الإسلام، ويكون أول سفير له، ويخصص بلال وعبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنهما للأذان، ويعين بعض الصحابة ولاة على المدينة في غيابه كعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما.وهو أرسل بعض الصحابة إلى (جرش) لتعلم صناعة المناجيق، كنوع من المهام العسكرية. وخصص بعض الصحابة لكتابة القرآن الكريم أو ما يعرف باسم "كتّاب الوحي".
وطلب من زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود، حيث قال له: "إني والله ما آمن يهود على كتاب". فقال زيد رضي الله عنه: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له. ثم قال: (فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم) (رواه البخاري والترمذي وأبو داود).
وهو الذي أرسل أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما قضاة إلى اليمن وقال لهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (متفق عليه).
بذل التضحيات مهما كان حجمها، لا يمكن أن تؤهل صاحبها لتولي مهمة لا يطيق حملها، وإلا كانت صورة من صور خيانة الأمانة
وفي الوقت نفسه كان أعلم بأصحابه وطبيعتهم، فهو الذي قال لأبي ذر رضي الله عنه: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". (رواه مسلم). فلم يولّ أبا ذر رضي الله عنه، رغم تاريخه المشرق، وأسبقيته على غيره في الإسلام، وتضحياته التي قدمها. وهذا يشير إلى مبدأ هام، أن التضحيات مهما كان حجمها، لا يمكن أن تؤهل صاحبها لتولي مهمة لا يطيق حملها، وإلا كانت صورة من صور خيانة الأمانة.
الرحمة بالناس
لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم رغم حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه، والتحديات التي تواجهه، أن يذكر بأهمية محبة الناس، وخدمتهم والسعي لقضاء حاجاتهم.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" (متفق عليه).
فالمرء مهما كانت مسؤولياته ومكانته، لا يصح له أن ينسى خدمة الناس، والرحمة بهم، وقضاء حوائجهم ، ولابد أن يشعر بهم ولا يكلفهم فوق طاقتهم، خصوصاً إن كان مسؤولاً أو في السلطة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه" (رواه مسلم).وفي هذا الصدد، يقول أبو عثمان بن الجاحظ: (ينبغي لمحب الكمال أن يعوّد نفسه محبة الناس، والتودد إليهم، والتحنن عليهم، والرأفة والرحمة لهم).
هذه خمسة مواقف، وهي غيض من فيض من سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم. وحريٌ بنا اليوم أن نراجع أنفسنا، هل نحن فعلا نقتدي به ونسير على خطاه أم لا؟