ساعات الدوام هل تعتبر مقياساً للجودة والإنتاجية في مؤسساتنا؟

الرئيسية » بصائر الفكر » ساعات الدوام هل تعتبر مقياساً للجودة والإنتاجية في مؤسساتنا؟
End-Of-Workday-102772904-1

شكل "النموذج الفوردي" (1) الرافعة الاقتصادي الأهم بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية مطلع القرن العشرين، معتمداً على الآلة وخط الإنتاج الموحد، بعدد عمال أقل ومهارة أكبر، وظل هذا النموذج هو السائد في العالم فترة الثورة الصناعية، وكانت الإنتاجية تقاس بعدد ساعات العمل التي يقضيها العامل في المصنع وقوفاً على الآلة التي تقوم بوظيفة واحدة من تقطيع أو تجميع، وعن طريق التجارب كان يعرف تماماً حجم الإنتاجية المطلوبة من كل عامل على آلته، وأي تأخير في مرحلة من مراحل الإنتاج يتبعها مباشرة تأخيرٌ في المراحل التي تليها.

لكن النموذج الفوردي في عصر التكنولوجيا و"الاقتصاد عالي التقانة" لم يعد ملائماً كمنهجية قياس لكثير من الوظائف حول العالم، واستبدل بنماذج أكثر قابلية للقياس، وتحديد مستويات الإنتاجية وجودتها، ويطرح التغير الحاصل سؤالاً غاية في الأهمية هل يكون الدوام على حساب الإنتاجية والجودة؟، فعلى سبيل المثال كيف يمكن أن تقيس إنتاجية وجودة محرر في موقع إلكتروني في فترة ما، أو كاتب مشاريع في غرفته خلف مكتبه؟ وهل تعتمد الإنتاجية على ساعات الدوام التي يقضيها الموظف من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثالثة عصراً، أو من الثالثة عصراً حتى العاشرة مساءً؟ وكيف من الممكن أن تقيس الإنتاجية للباحثين والكتَّاب؟ كلها وظائف جديدة تحتاج لمؤشرات قياس جديدة.

قد يكون الالتزام تاماً في الدوام الإداري، لكن الإنتاجية تقترب من الصفر، وهذا ما أصاب آلاف المؤسسات التي اتبعت نموذج الإدارة التقليدي "ساعات الدوام" بالترهل

في إحصائية مثيرة للانتباه حقق اليابانيون ساعتين من الإنتاجية يومياً وحقق الكنديون 45 دقيقة يومياً، فيم حقق المصريون والسعوديون 15 دقيقة من الإنتاجية يوميأ داخل مقراتهم الحكومية أو الشركات التي تتبع نظام الدوام الإداري المضبوط، وقد يكون الالتزام تاماً في الدوام الإداري، لكن الإنتاجية تقترب من الصفر، أو بجودة أقل بكثير من المطلوب، وهذا ما أصاب آلاف المؤسسات التي اتبعت نموذج الإدارة التقليدي "ساعات الدوام" بالترهل، والبطالة المقنعة، حال الكثير من المؤسسات الحكومية في العالم العربي.

بداية لا يمكن قياس أي مستوى للإنتاجية إن لم يكن لدى المؤسسة خطة تنفيذية واستراتيجية واضحة ، ودلالة ذلك أن الفوضى شعار المؤسسة، وأن ما ينتج يخضع للتقييم على مزاجية المسؤولين، وكثير من المؤسسات الخاصة والتي تتبع لجهة داعمة معينة، أو حكومية قد تصل إنتاجيتها للصفر بدون تقييم واضح، يعرف تماماً قياس الأثر التي تقدمه المؤسسة في المجتمع.

كما أن الخطة التنفيذية السنوية أو النصف سنوية، والاستراتيجية على مدار خمس سنوات "خماسية" أو سبع سنوات، لا تعتبر خطة جيدة دون وضع أهدافها بدقة، لتكون "أهدافاً ذكية" (2) قابلة للقياس، وتخضع في نهاية العام للتغذية الراجعة والتقييم.

قد بدا شكل العالم أكثر دقة في تحديد الأدوار المطلوبة للعاملين، وآليات قياسها، كما انتشر فيه نموذج "الفري لانس" أي العمل على قدر الإنتاج، وليس على قدر الدوام، وفي ظل العولمة القائمة أصبح الهنود يقدمون خدماتهم في مجال البرمجة والمحاسبة للأمريكيين بسعر أقل، ووقت محدد، وهم في الهند دون الحاجة لأي أصول ثابتة تقع بتكاليفها على صاحب الخدمة، فهو يحتاج النتيجة فقط، كما بيَّن "توماس فريدمان" في كتابه المشهور "العالم مستوٍ".

بدا نموذج الإدارة بالإنتاج أكثر قابلية للقياس، وأكثر ديناميكية في دفع المؤسسة نحو التنمية الشمولية، من خلال المشاريع التي تطرحها سواء أكانت خدماتية أو فكرية

وبدا نموذج الإدارة بالإنتاج أكثر قابلية للقياس، وأكثر ديناميكية في دفع المؤسسة نحو التنمية الشمولية، من خلال المشاريع التي تطرحها سواء أكانت ملموسة أو غير ملموسة، خدماتية أو فكرية، وتحقيقها قدر أكبر من الإنجاز عبر جودة الإنتاج، كل ذلك يجعلنا نفكر على صعيد إدارتنا لمؤسساتنا على شكل النموذج الأكثر ملائمة لكل وظيفة من الوظائف المتبعة، فيختلف تماماً الكاتب أو المحرر عن المراسل أو المدير التنفيذي أو الموظف الإداري، فلكل طريقة قياس محددة، أكثر مواءمة مع عمله.

إن المعرفة المسبقة لخط سير واتجاه المؤسسة، وتحديد المهام المطلوبة من كل شخص يعني تماماً الإنتاجية الجيدة، واختيار الأشخاص القادرين على التقييم وضبط الجودة يرفع من قدر المؤسسة في ظل التنافسية التامة في كافة المجالات ، وفي كل الأماكن، خصوصاً في المشاريع الفكرية أو الإعلامية.

وحتى لا يبدو الأمر ملتبساً فإن الدوام الإداري والالتزام بالوقت له أهميته ودلالته على الانضباط، لكن قد لا يكون دليلاً على مستوى الإنتاجية ، وهو في المرتبة الثانية بعدها، فكثير من المؤسسات التي تمتاز بانضباطها الإداري التام قد تواجه مشاكل كبيرة في قدرتها على المنافسة ومستوى جودة الخدمات ومستوى الإنتاجية لديها في السوق المزدحم بكافة أشكال الإنتاج.

علينا تغيير المفهوم التقليدي للإدارة في عقولنا بداية، ثم تطبيقاً على واقع مؤسساتنا، تعتمد على مدى انتشارها وتأثيرها، وليس على مدى التزام الموظفين فيها

خلاصة القول؛ علينا تغيير المفهوم التقليدي للإدارة في عقولنا بداية، ثم تطبيقاً على واقع مؤسساتنا، التي تحتاج لمشاريع تنموية بكافة أشكالها، تعتمد على مدى انتشارها وتأثيرها، وليس على مدى التزام الموظفين فيها، فالفروق العقلية لدى الموظفين قد تجعل التصنيف قاصراً على موظف ذو قدرات محدودة جداً ملتزم بالدوام بحذافيره، عن موظف ذي قدرات عقلية عالية، وأفكار إبداعية لا يستطيع أن يبرمج نفسه ليلتزم حرفياً بساعة الحضور والانصراف، وقد تشكل الإدارة التقليدية بالنسبة له عامل تنفير وطرد لترك العمل بحثاً عن مؤسسات أخرى تعطي اهتماماً لجودة العمل والأفكار المطروح على حساب الالتزام بالدوام.

___________________________

الهوامش:

(1) سمي بـ"النموذج الفوردي الذي ساد مطلع العشرينيات نسبة إلى "هنري فورد" (1863-1947)، مؤسس شركة "فورد موتورز"، وكانت رؤيته الجديدة تتمثل على إنتاج عدد هائل من السلعة الواحدة بشكل موحد، عن طريق الماكينات، وبالاعتماد على خط التجميع التسلسلي إلى أن تكتمل السلعة النهائية، ولا تحتاج هذه الطريقة على عمالة ماهرة، وإنما كل عامل يقوم بتأدية عملية واحدة بسيطة بشكل مكرر، وكان العمال يمنحون أجراً مضاعفاً عن أجر السوق، لزيادة إنتاجيتهم.
(2) "الهدف الذكي" هو الهدف الذي يتمتع بوضوح تام، وقابل للقياس، وخلال فترة زمنية محددة، مثال ذلك: تطوير قدرات العاملين في المؤسسة من خلال 6 دورات تدريبية في مجال الإدارة والتكنولوجيا خلال فترة زمنية عام واحد، بواقع دورة كل شهرين، بذلك يمكن قياس مدى نجاحنا في تطبيق الهدف نهاية العام، من خلال عدد الدورات، والحضور، والتغذية الراجعة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب صحافي من غزة حاصل على درجة الماجستير في الاقتصاد السياسي، متخصص في الشأن السياسي والقضايا العامة، وعمل مع العديد من الصحف والمواقع العربية والأجنبية، شارك في كتاب عن "الأسرى الفلسطينيين" نشر بعدة لغات. أعد مجموعة كبيرة من المقابلات الصحفية والتوثيقية مع مجموعة من صناع القرار والقادة الفلسطينيين، وأنجز مجموعة من التحقيقات الصحفية الاستقصائية.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …