تسعة وعشرون عاماً مرت على انطلاقة هذه الحركة المباركة، حيث ولدت من رحم المعاناة، والتي امتدت لعقود عديدة، قدّم فيها الشعب الفلسطيني العديد من الشهداء والجرحى والمعتقلين، وصودرت خلاله حريته وأرضه ومقدساته، وشرد أبناؤه في شتى بقاع الأرض.
تسعة وعشرون عاماً، مرت بكل ما فيها من أحداث وتضحيات وصور مشرقة قدمتها الحركة، ودونتها بدماء أبطالها في سجل التاريخ الفلسطيني المشرق، والتي جعلت من الحركة بوصلة للمقاومة، ورائدة في الصبر والتضحية والتمسك بالثوابت.
ولو عدنا بالتاريخ إلى الإعلان عن انطلاقة هذه الحركة، نجد أنها لم تكن بقرار عشوائي، أو نتيجة ردة فعل، بل كانت نتاجاً طبيعياً للعمل المنظم الذي قام به الإخوة المؤسسون وغيرهم، ممن كانوا رائدين في العمل التربوي ورموزاً في مجتمعاتهم، وبعد أن كانت تكليلاً لجهود العمل المسجدي والطلابي والجامعي والمجتمعي، الذي وضع الأسس الواضحة والأرضية الصلبة التي وقفت عليها الحركة بعد إعلانها؛ لأنها تدرك أن الإعلان عن إشهار حركة مقاومة تحارب الاحتلال، يعني أن أفرادها سيتعرضون لشتى أنواع الضغوط والمحاربة، بين قتل واعتقال وإبعاد وتضييق، ولا يمكن أن تستمر إذا لم يكن لها حاضنة جماهيرية، وقاعدة إيمانية في الوقت نفسه.
الانطلاقة كانت نتاجاً طبيعياً للعمل التربوي والمسجدي والطلابي والمجتمعي، فهي نتيجة للعمل المنظم الذي قام به الإخوة المؤسسون على مدار سنوات عديدة
في ذكرى الانطلاقة، نستذكر شهداء الحركة وقادتها، على رأسهم شيخ فلسطين الشهيد الإمام أحمد ياسين، ود. عبد العزيز الرنتيسي، وأحمد الجعبري، ويحيى عياش، وغيرهم الكثير والقائمة تطول وتطول. وهم الذين قدموا أرواحهم، وسطروا تاريخ الوطن بدمائهم الزكية، ليحمّلونا أمانة السير على ذات الدرب الذي ساروا عليه. وليؤكدوا على أن الوطن لا يمكن أن يسترد وأن يتحرر دون تضحيات ، فإذا كان أي منا لا يمكن أن يحقق أي هدف له إلا بأن يبذل ويقدم ما عنده في سبيله، فكيف إن كانت غايتك أن تحرر أرضك، من عدو مجرم استباح حرمات الوطن، وأزهق الأرواح وما زال يقوم بذلك يومياً!
إن ثمن الوطن غالٍ ونفيس، وإننا لابد أن ندرك أن طريق التحرير ليس مفروشاً بالورود، بل هو مليئ بالأشواك والعراقيل ، فأن تقاوم يعني أن تتحدى عدوك وتستعد للصمود أمام ضرباته المتلاحقة واحدة تلو الأخرى.إن هذه سنة الحياة، وقانون البشر، أن الحقوق تنتزع انتزاعاً ولا توهب أو تمنح، وأن المقاومة هي الطريق الوحيد لاسترداد ما سلبه منا الاحتلال، ووقف تعديه على شعبنا ومصادرته لأراضيه .
لقد قدمت حماس خلال مسيرتها درساً هاماً للأمة، مفاده أن الصمود والثبات والانتصار قد يحدث إن توفر الإيمان و التخطيط واستغلال الطاقات، حتى لو كنت قليل العدد والعدة
لقد قدمت حماس خلال مسيرتها درساً هاماً للأمة، مفاده أن الصمود والثبات والانتصار قد يحدث إن توفر الإيمان و التخطيط واستغلال الطاقات، حتى لو كنت قليل العدد والعدة. فحماس وغيرها من الفصائل خاضت حروباً ثلاثة في غزة، صمدت وصمد أهل القطاع أمام جبروت الأسلحة الصهيونية، وعاد المحتل يجر أذيال الخيبة والهزيمة، بعد أن أظهر قوة أسلحته وتأثيرها على العزّل والنساء والأطفال، وفي الوقت نفسه عجز عن أن يفت في عزيمتهم، أو يثبط معنوياتهم.
أما في المعتقلات والسجون، فلم يستسلموا أو يستكينوا، بل أجبروا السجان الذي يمتلك كل شيء أن يخضع لمطالبهم مرات عديدة، فقط بسلاح الجوع والإرادة.
على جانب آخر، لم ينفصل الجانب الإنساني والاجتماعي عن عمل الحركة، فهي بقيت وفية لشعبها، قبل وبعد أن تولت السلطة وترأسها للحكومة. وهو ما زاد من التفاف الناس حولها، فأبناء حماس حالهم كحال أبناء الشعب الفلسطيني، لا يتمتعون بأية امتيازات أو خصوصيات، يعيشون ما يعيشه شعبهم، يعانون ما يعانوه، ويحرصون عليه وعلى سد جوانب الخلل والضعف فيه.
حماس، أعطت كل ثائر درساً بالغ الأهمية، أن البنادق لا توجه إلا للمحتل، ولا يصح أن ننشغل عن معركتنا مع المحتل بمعارك جانبية
حماس، أعطت كل ثائر درساً بالغ الأهمية، أن البنادق لا توجه إلا للمحتل، ولا يصح أن ننشغل عن معركتنا مع المحتل بمعارك جانبية، أقتتل فيها أنا وأخي، ثم يشمت بنا الاحتلال. وإن حصل بيننا خلاف في الرؤى والبرامج، فلا يصح أن ينعكس على الميدان ، فالصاروخ الصهيوني لا يقتل الناس حسب الانتماء السياسي والتنظيمي، بل يقتل الفلسطينيين؛ لأنهم يسكنون في هذه الأرض فحسب. وهذا واحد من أسباب النجاح في معركة العصف المأكول حينما كانت تعمل الفصائل الفلسطينية بعمل مقاوم مشترك، وهو ما يؤكد أن وحدتنا عامل هام في انتصارنا وكرامتنا .
وخلال مسيرة حماس الحافلة بالأحداث، وفي مشهد سياسي متغير وبالغ التعقيد، فإن حماس انتهجت سياسة عدم التهور والانجرار وراء العاطفة، وتغليب الحكمة والعقل والمصالح، فلم ترض أن تكون تابعة لأحد يتحكم بها كما يشاء، وطرقت أبواب الجميع؛ لأنها تؤمن أن قضية فلسطين هي قضية مركزية للأمة الإسلامية، وليست للفلسطينيين وحدهم. ومع ذلك لم تتنازل عن إسلاميتها وإنسانيتها، ووقفت ضد الظلم مهما كان مصدره، حتى لو اضطرها لأن تدفع بعض الأثمان والتكاليف بسبب مواقفها التي تصب في مصالح الشعوب.
في هذه الذكرى، ونحن نستحضر حجم التحديات الكبير الذي يواجه الحركة، فإن عليها أن تحرص على ما يأتي:
1- لابد من تعبئة جميع نفوس العاملين فيها على روح المقاومة والتضحية والجهاد، فإن المعركة مع المحتل مستمرة متواصلة، وإن هذه المعركة تتطلب دماءً وأرواحاً كثيرة، ولا يمكن أن ننتصر طالما لم نعقد النية على مقارعة المحتل ومحاربته إن سنحت لنا الفرصة .
2- العمل على وضع خطط واستراتيجيات نحو تحرير كل فلسطين، فقد آن الأوان للتفكير جدياً في هذا الأمر، وليس مقبولاً أن نرضى بالضفة المقسمة، وغزة المحاصرة، فهناك الملايين من اللاجئين الذين يحلمون بأن يعودوا إلى أراضيهم. صحيح أن المشهد بالغ في التعقيد، لكن لا نعدم الوسيلة، وأولها التخطيط، ثم التنفيذ والذي لابد أن يكون واقعياً، متماشياً مع ما تملكه الحركة من طاقات وقدرات.
3- المراجعة والتقييم الدائم للتجارب والقرارات، فأن تعمل يعني أنك بلا شك ستقع في الخطأ، ولا ضير في ذلك، المهم أن تتعلم من الخطأ، وتتجنبه في المراحل القادمة، خصوصاً وأن حماس باتت رقماً صعباً في المعادلة السياسية الفلسطينية. ويدخل في هذا الأمر، مراجعة الأنظمة واللوائح الداخلية، بما يتناسب مع المتغيرات، والظروف التي تمر بها الحركة.
4- التركيز على وحدة الثقافة بين الأفراد، فلا يمكن أن تنجح والعاملون عندك يختلفون في الأبجديات والبدهيات، لذا لا بد من نشر ثقافة أساسية مشتركة بين جميع الأفراد، ترسخ فيها الثوابت، وترسي فيها الأصول والركائز في نفوسهم وعقولهم .
النصر لا يأتي بالتخطيط والعمل فحسب، وإنما نحن في معركة نحتاج فيها للصبر والثبات، ولا يكون هذا إلا بالإيمان، وحسن التربية، ووحدة الصف، والتوكل على الله عز وجل
5- التركيز على البعد التربوي والإيماني، فالنصر لا يأتي بالتخطيط والعمل فحسب، وإنما نحن في معركة نحتاج فيها للصبر والثبات، ولا يكون هذا إلا بالإيمان، وحسن التربية، ووحدة الصف، والتوكل على الله عز وجل. ويشمل ما سبق معالجة المشكلات التربوية والسلوكية التي قد تظهر على البعض، ففي النهاية كلنا بشر، وليس هناك أحد معصوم من الخطأ، وعلى قدر قوتك التربوية والإيمانية، يكون ثباتك في الميدان ويسهل انتصارك على عدوك.
6- توفير أكبر عدد من المختصين في جميع المجالات، السياسية والقانونية والإعلامية والشرعية والاقتصادية وغيرها، وتأهيل جميع العاملين وتطوير قدراتهم بما يتناسب مع المتغيرات وحجم التحديات.
ختاماً.. أسأل الله عز وجل أن يوفق أبناء هذه الحركة المباركة لما فيه كل خير، وأن يجعل موعد تحريرنا للقدس قريباً، وأن يرحم شهداءنا، ويشف جرحانا، وأن ينعم على أسرانا بالحرية، إنه سميع مجيب.