كيف تقبل الرسول -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- معارضيه؟!

الرئيسية » بصائر الفكر » كيف تقبل الرسول -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- معارضيه؟!
madina10

نحن في هذه الأيام في رحاب ذكرى طيبة، وهي مولد الرسول الكريم، محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، ولئن كان لا يزال ذلك الجدل الأبدي حول مشروعية أو عدم مشروعية الاحتفال بمولده "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"؛ فلا أقل من أن تكون المناسبة فرصة لنا كمسلمين لاستحضار المزيد من هديه "عليه الصلاة والسلام".

وفي ظل المشكلات السياسية والاجتماعية، التي تضرب الأمة ومجتمعاتها ودولها بأطنابها؛ فإننا من الأهمية بمكان في هذه المرحلة، أن يكون اهتمامنا بما جاء في السيرة النبوية العطرة من الأمور التي تحسم المشكلات الاستراتيجية التأثير، وتعمل على رأب صدع الأمة، واجتماع شتاتها مرة أخرى.

ومن بين أهم الأمراض الآن التي ابتُلِيت بها معظم الحركة الإسلامية على اختلاف ألوان طيفها الفكري والتنظيمي في الوقت الراهن، هو غياب الممارسة الديمقراطية السليمة بداخلها، وعدم قبول الآخر، حتى وإن كان مِن ذات الإطار، وكان ما يطرحه يصب في المصلحة العامة.

هذه المشكلة شديدة التأثير على الصورة الذهنية الخارجية للحركة الإسلامية، فهي تفت في عضد طرحها لنفسها كبديل سياسي ومجتمعي للأنظمة الحاكمة، فغياب الممارسة الديمقراطية السليمة، بالمعنى الواسع، الذي يتجاوز مجرد انتخاب الأطر التنفيذية والحركية، إلى آفاق أوسع تتعلق بكيفية تعامل الحركة الإسلامية مع الآخر، ومع الرأي المخالف بداخلها، وكيف تعمل على توظيف كل الآراء متى كان في ذلك مصلحة عامة.

بالرغم من أن النبي عليه السلام كان يأتيه الوحي من اللهِ إلا أنه قدم أعظم النماذج في المرونة السياسية سواء لجهة تقبل آراء معارضيه، أو لجهة التزامه بآراء أصحابه فيما ليس فيه نص

ولعل ما يحسم هذه المشكلة، منطق بسيط للغاية من حياة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، فبالرغم من أنه نبيٌّ، وكان يأتيه الوحي من اللهِ تعالى، وما كان "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" ينطق عن الهوى؛ إلا أنه قدم أعظم النماذج في المرونة السياسية، سواء لجهة تقبل آراء معارضيه، حتى ممَّن لم يكونوا قد آمنوا به بعد، أو لجهة التزامه بآراء أصحابه فيما ليس فيه نص.

ومن هنا تأتي عظمة شخصية الرسول الكريم "عليه الصلاة والسلام"، وتأكيد على أنه بالفعل تربية ربانية، وأن الله تعالى أعده لحمل هذه المسؤولية الثقيلة؛ حيث لم تعتريه في هذه الأمور، التي هي بالفعل الفيصل بين القائد والسياسي الناجح، وبين القائد والسياسي الفاشل؛ عوارض النقص الإنساني المتعارف عليها، والتي أزالت أممًا وإمبراطوريات كبرى عبر التاريخ.

وكان النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، لا يقف على آراء مخالفيه حتى في قرارات الحرب والسلم، بالرغم من أنها هي الأهم في حياة الأمم.

ويبدو أن ذلك كان إما بتكليف إلهي لا نعلمه، أو أن حكمة الله تعالى وإرادته شاءت ذلك؛ ألا يسأل النبي "عليه الصلاة والسلام" ربَّه الهداية في مثل هذه المواقف.

فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، استشار صحابته وكان قادرًا على أن يسأل ربه، في الكثير من المواضع التاريخية التي مثَّلت لحظات تاريخية فارقة في حياة الأمة، التي كانت في تلك الفترة لا تزال في طور التكوين، وليس أدل على حساسية هذه المرحلة، من قوله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، عندما نظر إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله "عليه الصلاة والسلام" القِبْلَة، ثم مد يديه فجُعِل يهتف بربه سبحانه وتعالى: "اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتِ ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض" [أخرجه مسلم].

وفي بدرٍ كذلك، استشار الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، صحابته في موضع المكوث والمعسكر، ونزل على رأي سلمان الفارسي "رَضِيَ اللهُ عنه"، وفي أزمة الأحزاب، في العام الخامس للهجرة، رجع إلى الصحابة، فحفر الخندق وحارب مشركي القبائل العربية واليهود، من المدينة، بالرغم من أنه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، كان مع الرأي القائل بالقتال من خارجها.

والمواقف من حياته "عليه الصلاة والسلام"، في مثل هذه الأمور، كثيرة، فهناك موقفه مع سهيل بن عمرو الذي جاء يفاوضه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، في صلح الحديبية، ورفض أن يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم"، أو "هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله"، وقال لعليٍّ "رضي اللهُ عنه"، أن يكتب "بسم اللهم" و"هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله".

في هذا الموقف أبرز الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، القدرة على ضبط النفس، وأعلى من شأن المصلحة العامة للمسلمين على ما عداها من اعتبارات.

في الحديبية، لم يدعُ "عليه الصلاة والسلام" ربَّه على مخالفيه، ولم يعنفهم، ولم يدعو صحابته الذين أيدوه منذ البداية إلى أن يقاتلوا مَن عارضوه

وفي الحديبية كذلك، عندما عارضه بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ لم يفعل أكثر من أنه دخل إلى خيمته، حزينًا، وطلب مشورة أم المؤمنين، أم سَلَمَة "رَضِيَ اللهُ عنها"، وفعل مثلما أشارت عليه، وأنقذ رأيها الأمة، بعد أن قال "عليه الصلاة والسلام": "هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا".

في حينه لم يدعُ "عليه الصلاة والسلام" ربَّه عليهم، ولم يعنفهم، ولم يدعو صحابته الذين أيدوه منذ البداية إلى أن يقاتلوا مَن عارضوه؛ كما نرى الآن مِن بِدَعٍ ومستحدثات من جانب مَن يدعون أنهم من الحركة الإسلامية. إطلاقًا. فقط التفت "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، إلى ما يجب عليه أن يقوم به، فتبعه القوم، وانتهت الأزمة، وفُتحت مكة المكرمة بعد ذلك بعامٍ واحد!

والموقف الأخير بالذات، هو من أهم ما يمكن في التدليل على كيفية تعامل قيادات الحركة الإسلامية مع معارضيهم في الرأي، سواء داخل الحركة، أو من خارجها؛ فهذا هو فعل "رسول الله" "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، مع أعداء الدين، ومع مَن خالفوه في الرأي بل ومع من رفضوا قراره بالرغم من أنه لا ينطق عن الهوى، وهم مؤمنون بأنه "رسول الله".

إذًا، فأية محاولات للقول بأن الإسلام ليس كذلك، وبأن السمع والطاعة المطلقَيْن، واجبان للحاكم أو للأمير، إنما هو محض افتراء على الإسلام، بل وخروج عن صحيح الدين؛ حيث الأصل هو القرآن الكريم وفعل النبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، والاجتهاد يكون فيما ليس فيه نص أو أصل شرعي من القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية.

هكذا كان محمدٌ "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وهكذا هو الإسلام؛ فعلموه لأبنائكم كما أنزله الله تعالى علينا!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …