دُعيتُ في بداية العام 2016 لإعداد برنامج لصناعة وتأهيل المتطوعين في العالم العربي، وبمجرد عُرضت عليّ المهمّة تذكرتُ مشهداً لرجل عجوز، حينما أحسّ بدنوّ أجله، طلب إلى زوجه أن ترافقه إلى بستان قريب، وزرع في إحدى زواياه شتلة صغيرة، وسقاها ثم قفلا عائدين.
سألت زوجه عن سبب ما فعله، فأخبرها بأنه حين قدم إلى البلاد شريداً قبل عشرات السنوات، مرّ بأرض مقفرة، كان عطشانا، متعباً، وتائهاً، فلم يجد شيئاً يستظل به أو يخفف عطشه، ولمّا استقر وعمل فجنى رزقا وفيراً، قرر أن يشتري تلك الأرض المهجورة، ولمّا لم يصل إلى مالك هذه الأرض التي انتهى إليها وبدأ منها، اشترى أقرب أرضٍ متاحة بالجوار واستمر بالعمل والبحث معاً حتى وصل إلى صاحب الأرض المقفرة، واشتراها منه ثُم حررّها من قفرها، وبدأ يزورها كلما سنح له الوقت، فيزرع شجرة ظل، أو فاكهة، أو ورد، ولمّا استطاع حمل التكلفة حفر فيها البئر الذي تراه زوجه حيث أشار، ولم يمنع أحداً عن ثمارها أو ظلها يوماً.
دُهشت زوجه من سره الذي أخفاه عنها لأكثر من ثلاثين عاماً من الزواج، قال: فكرت بأن أحداً ضائعاً قد يمرّ من هذا المكان بعد سنوات بنفس حالتي إياها أو أكثر سوءاً حتى، ولا يكون له صبري وجلدي؛ لأنني أعلم أن الأجيال تأتي أضعف من سابقتها مع مرور الزمن، ولو علمت أنهم لن ينتظروا السماء أن تمطر عليهم خيراً لما فعلتُ، حتى أسمح لهذا الإنسان أن ينجح مثلي ويبني مستقبلًا مدهشاً بعد ضياع عابر!
أما أنا... فقد قبلتُ مهمّة إعداد البرنامج؛ لأنني تأكدتُ من أنني سأسهم ولو بفكرة في دعم التطوع وصناعة المتطوعين الذين بإمكانهم أن يغيروا قدر هذه البلاد التي تسيرُ إلى الهاوية –لولا رحمة الله– وقد قررت حينها أن أكتب عن الموضوع قدر ما استطعت، لكنني وضعته جانباً وأجلته كثيراً في بحر ملاحقة المهام الأخرى، لكنني وفي اليوم العالمي للتطوع، نفضت عن مذكرته الغبار، وتشجعت لتقديم مادة لعلها تفيد ولو شاباً واحداً في هذا العالم.
لماذا يجب أن ندعم التطوّع؟
التطوّع من أهم ركائز الحضارات العالمية، ومنه يمكن قياس مدى وعي أفراد مجتمع ما، والمفاضلة بينه وبين مجتمع آخر
لأنه من أهم ركائز الحضارات العالمية، ويمكن عن طريقه تحديد قدرة البلاد على منح أبنائها الهوية والامتيازات والبيئة الكاملة التي تفي باحتياجاتهم، وتدعم تطورهم وتعزز انتماءهم إليها، ومنه يمكن قياس مدى وعي أفراد مجتمع ما، والمفاضلة بينه وبين مجتمع آخر.
يقول بن سويتلاند: "لا يُمْكِنُنَا حَمْلُ شُعْلَةٍ؛ لتُنِيْرَ طَرِيقَ الآخَرِيْنَ، بِدُوْنِ أَنْ تُنيْرَ طَرِيْقَنَا أوَّلاً" فكما أن التطوع يعود بالنفع والخير على البلد، كذلك إن أثره الإيجابي عميم، إذ يعود بالنفع على الفرد المتطوّع بنسبة ربما تكون أكبر بكثير ، حيث يضيف إلى سيرته الذاتية مزيداً من الخبرات والشهادات التي تمنحه نقاطاً تُميزه عن أقرانه، كما يضيف إلى خبراته الشخصية وعلاقاته المزيد من العمق والاتساع والجدية، ويهبه فرصة واسعة للدخول إلى عالم الأعمال وتهيئة الأجواء لاكتشاف نفسه ومهاراته وقدراته، وبالتالي الانطلاق في فضاء الحياة العملية والإنجاز بأجنحة متينة الإعداد.
كل العقبات يعقبها النجاح:
التطوّع في عالمنا العربي –مثل غيره في الحقيقة– منتصبة في وجهه عقبات غريبة، مثل: التقصير من قبل المؤسسات التربوية، والتعليمية، والإعلامية في توعية الفرد والمجتمع بقيمة العمل التطوعي والحث عليه، إلى جانب قلة وعي الشباب بأهمية العمل التطوعي ودوره في تحسين الحياة، أو غياب الوعي والدافع في بعض الحالات، ينضاف إلى ذلك سوء التعامل من قبل العديد من المؤسسات التي تحتضن المتطوعين، كعدم تقدير جهودهم أو الاستهانة والاستخفاف بها، الأمر الذي قد يجعل المتطوع ينفر من الفكرة بأكملها.
وبالرغم من ذلك، فإن هناك الكثير من الأسباب والدوافع التي تدعم جدوى التطوع، لعل أهمها:
لقد حثّت تعاليم الإسلام على التطوع وبشرت من يقوم به بخيري الدنيا والآخرة
1. الاستعداد الفطري لدى الشباب في المرحلة العمرية المتوسطة للعمل والفاعلية عن طريق أنشطة وفعاليات تسهم في تعزيز حاجتهم للشعور بالانتماء للمجتمع، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم على تأدية واجباتهم تجاه المجتمع.
2. الاعتقاد المخلص لدى أغلب الشباب العربي بمطلق تعاليم الإسلام الذي يحث على التطوع ويبشر من يقوم به بخيري الدنيا والآخرة.
3. تعدد المؤسسات الأهلية التي تدعم العمل التطوعي وتروج ثقافة التطوع، بالإضافة إلى حاجة المؤسسات والبلدان العربية للجهود التطوعية.
كيف يرسم التطوع ملامح المستقبل؟
يسهم التطوع في تخريج جيل يتفاعل مع قدراته ومهاراته ومعطيات بيئته بشكل إيجابي؛ ويسهم في عملية التطوير الجمعي، والتنمية الشاملة
يسهم التطوع في تخريج جيل صالح، يتفاعل مع قدراته ومهاراته ومعطيات بيئته بشكل إيجابي؛ لينتج أفضل ما يمكنه إنجازه، ويسهم في عملية التطوير الجمعي، والتنمية الشاملة.
ولذلك فإن من واجب المؤسسات التنموية المختصة أن تعمل على تهيئة مُناخ يتكيف معه المتطوعون، ويساندهم، ويغذي مهاراتهم وأفكارهم ، ويمدهم بالقوة والطاقة والحافز، بالتكامل مع الجهات المهتمة لاستقطاب المتطوعين واكتشاف القدرات والمهارات التطوعية لدى الشباب، والعمل على تنميتها وصقلها وتطويرها.
والتعاون بين الجهة المختصة مع المؤسسة التربوية، والإعلامية، والثقافية سوف يسهم في تأثيث أرضية خصبة لاحتضان التطوع واستغلاله الاستغلال الأمثل، عبر استثمار القدرات والطاقات الشابة من جهة، ومن جهة أخرى لتحقيق أقصى استفادة للمجتمع والمتطوعين على السواء وبشكل متبادل.
ويتمّ ذلك بطرق ممنهجة، تعمل على إخراج العمل التطوعي من ثياب العشوائية الفردية، إلى العمل المؤسسي المنظم والمدروس بدقة وعناية، وتنشر ثقافة التطوع في العالم العربي، وترسخ قاعدة قوية لاحتضانه، من قبل المجتمع بمؤسساته الحكومية والأهلية، وأفراده بجميع فئاتهم ومستوياتهم، إلى جانب مقاربة وجهات النظر بين المتطوع والمجتمع العام، أو المجتمع المؤسساتي الذي يحتضن المتطوعين، ويستفيد بالدرجة الأولى من قدراتهم، ويعمل على تطويرهم، باستخدام العناصر المؤهلة لقيادة الأعمال التطوعية والفرق التطوعية، واستقطابهم لتدريب آخرين بمستوى متميز، وتنميتهم ذاتياً وفكرياً ووجدانياً.