جُبلت النفس البشرية على حب التميز والظهور بشكل متجدد دائماً، وفي شتى المجالات، وذلك يجعلها في تنافس دائم مع ما حولها من أنفس بشرية أخرى، ساعية في ذلك لإثبات مكانتها والوصول بها للقمة وقبل الجميع.
إذا أردنا أن ننظر لتلك الكلمات السابقة بمنظور إسلامي، سنجد أن الشريعة الإسلامية جعلت باب التنافس مفتوحا أمام المسلم من خلال قوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [سورة المطففين:26].
قال ابن حجر رحمه الله في معنى هذه الآية: "المنافسة هي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه".
ولكن الشريعة الإسلامية لم تدع ذلك الباب مفتوح على مصراعيه، وإنما فتحته بضوابط تحكمه وتجعله يسير بشكل صحيح نحو الهدف المنشود، فقد بيّنت من خلال النصوص الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة أن هناك تنافساً محموداً يصل بالمسلم إلى أعالي الجنان، وآخر مذموماً يصل به إلى قاع النار والعياذ بالله.
ومن الأمور التي يتنافس فيها الناس في هذا الزمان -في ظل وجود قدر من الحرية والديمقراطية في بعض البلاد الإسلامية– الانتخابات، وهي آلية أساسية في الأنظمة الديمقراطية لكن يشوبها كثير من الشوائب عند تطبيقها في البلاد الإسلامية؛ لأنها في الغالب يكون المقصود فيها إعلاميا وذراً للرماد في العيون.
وقد اعتمدت الحركات الإسلامية كجماعات تسعى للتغيير الإيجابي في المجتمعات المسلمة آلية الانتخابات الداخلية لاختيار قياداتها، وتحمل مسئوليات الأعمال فيها.
فهل التنافس في الانتخابات داخل الحركة الإسلامية مذموم أم محمود؟
إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فما هو هدف الانتخابات في الحركة الإسلامية؟
هدف #الانتخابات في الحركة الإسلامية هو أن يتولى شؤونها الأصلح والأقدر على تنفيذ سياساتها، والأقوى على مواجهة التحديات التي تواجهها في مسيرتها
لا شك أن هدف الانتخابات في الحركة الإسلامية هو أن يتولى شؤونها الأصلح والأقدر على تنفيذ سياساتها، والأقوى على مواجهة التحديات التي تواجهها في مسيرتها في الحياة، والمجتمع الذي تعايشه، ومن هنا فإن التنافس لتحقيق هذه الغاية أمر محمود بل في اعتقادي أنه لا يجوز لمن يرى في نفسه القدرة على القيادة وعلى تحقيق أهداف الجماعة بما يتوفر له من صفات وإمكانيات لا يجوز له أن يتوارى عن الساحة، أو أن ينأى بنفسه عن هذه الانتخابات، وهنا كلام دقيق ينبغي الانتباه له.
فإن هناك فارق دقيق بين من يزكي نفسه طلباً للرئاسة وحب الظهور، وبين من يزكي نفسه طلباً للأجر وخدمة للدعوة والحركة التي انتمى لها . {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [سورة يوسف:55].
فلما علم يوسف عليه السلام أنه الأقدر على تنفيذ خطة الاقتصاد، رشح نفسه لهذا المنصب "وزير المالية"، وهكذا إذا صلحت النية فلا يجوز التواري والنكوص عن التنافس مما يدع المجال لمن يسعى للرئاسة والمسئولية وهو غير أهل لها، بل تبعا لهوى ذاتي مما جعل الحركة الإسلامية تصاب في مقتل في بعض الأحيان.
هذا من جهة الترشيح أما من جهة #الانتخاب فالأصل أن يشارك الجميع في هذه العملية، وأن لا يتخلف أحد بل يصل الأمر إلى عدم جواز التخلف عن ممارسة الحق الانتخابي في انتخابات الحركة الإسلامية؛ لما لذلك من الأهمية في اختيار الأصلح {ان خير من استأجرت القوي الأمين} [سورة القصص:26].
الممارسات السلبية في الانتخابات
وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض الممارسات السلبية في الانتخابات الداخلية التي تجرى في الحركات الإسلامية:
1- #الكولسة: مصطلح يطلق على التحرك الذي يقوم به بعض الناخبين لضمان فوز أحد المرشحين أو القائمة المعتمدة من قبلهم في الانتخابات، مما يفقد الأفراد ممن يتأثرون برأيهم حرية اختيار الأصلح فيتبعون القائمة أو الشخص المزكى لهم ممن يعرفونهم، أو ممن يعتبرونهم قدوة لهم فلا يدققون في الأسماء المعروضة للانتخاب، وينتخبون دون تفكير أو تمحيص، وهذا مما يضر بالعملية الانتخابية ككل.
من مضار (الكولسة) أن ينقسم جمهور الجماعة أو الحركة إلى فريقين، كل فريق يؤيد تأييداً أعمى قائمته المرشحة، دون النظر إلى مقومات الأفراد المرشحين من غيرهم
كما أنّ من مضار هذه العملية (الكولسة) أن ينقسم جمهور الجماعة أو الحركة إلى فريقين، كل فريق يؤيد تأييداً أعمى قائمته المختارة أو المرشحة، دون النظر إلى مقومات الأفراد المرشحين من غيرهم، أو من المنافسين لهم، مما يضر بالجماعة ويوغر الصدور لدى كل فئة من الفئة الأخرى، بل قد يدفع إلى ممارسات سلبية من الدعاية المضادة واغتيال الشخصيات، والطعن في الأعراض مما يدمر مفهوم القدوة لدى أفراد الحركة أو الجماعة.
2- الدعاية الانتخابية: وهي كل ما يقال خلال الانتخابات مدحاً أو ذماً في المرشحين الذين تم ترشيحهم لخوض الانتخابات وهو مباح بشروط أو ضوابط:
أولاً: خلو الدعاية من الكذب في مدح النفس، أو مدح الآخرين، أو الطعن فيهم.
ثانياً: خلو الدعاية من إنفاق الأموال بحيث يتميز أهل الثراء عن غيرهم.
ثالثاً: خلو الدعاية من أي شراء للأصوات.
رابعاً: خلو الدعاية من أي محرم آخر غير متعلق بالدعاية.
خامساً: الاقتصاد في مدح النفس على قدر الحاجة، وأن لا يسمح بالمبالغة الدالة على استهتار بالمسئولية وانكبابب عليها.
ويفضل هنا أن تقوم القيادة الحالية بتنظيم عملية الدعاية الانتخابية، فتدعو المرشحين والناخبين للقاءات جامعة يطرح فيها المرشحون أفكارهم ومشاريعهم وخططهم للنهوض بالجماعة أو الحركة، ويقوم الناخبون بتوجيه الأسئلة الكاشفة عن قدراتهم وإمكانياتهم المختلفة، مما يعينهم على اتخاذ القرار المناسب في الانتخابات.
الانتخابات وسيلة للفرقة
إن من أعظم ما ابتليت به الحركات الإسلامية تحول الانتخابات إلى وسيلة لتفريق الصف وبث الفرقة والخلاف ؛ لما يلازمها من ممارسات سلبية تعزز الانقسامات وتغذي الخلافات بين الأشخاص، أو التوجهات المختلفة، حتى بات ترك الانتخابات مطلباً للبعض حفاظاً على الصف ووحدة الجماعة وقوتها في مواجهة التحديات، والتوجه نحو التوافقات الانتخابية بدلاً من المنافسة، فإذا تمت هذه الممارسة مرة من المرات لتجاوز السلبيات فلابأس بذلك، ولكن لا ينصح أبدا أن تصبح نهجاً للتعامل مع الخلاف الناتج عن التنافس، بل الـصح هو التنافس الانتخابي المبني على الالتزام بالضوابط الشرعية؛ لأن التنافس يأتي غالبا بالأفضل أو الأصلح، والأهم أنه يأتي بمن يملك الاستعداد للعمل، ويرغب في الأداء المضني المترتب على تحمل مسؤولية القيادة.التنافس يأتي غالباً بالأفضل أو الأصلح، والأهم أنه يأتي بمن يملك الاستعداد للعمل، ويرغب في الأداء المضني المترتب على تحمل مسؤولية القيادة، في حين أن التوافقات تكون على حساب اختيار الأصلح
أما التوافقات فقد تكون على حساب اختيار الأصلح، وقد تحرم الحركة أو الجماعة من اختيار بعض المرشحين الغير محسوبين على التوجهات المتنافسة والتي تجري التوافقات بينها عادة.
النزاهة وقبول نتائج الانتخابات
من نافلة القول إن الانتخابات الداخلية في الحركة الإسلامية تتميز بالنزاهة، لكن عدم القدرة على إجرائها بالشفافية المطلوبة أو العلنية دفع البعض إلى الطعن في النتائج مستندا إلى عدم دقة الإجراءات، أو ميل القيادة الحالية مع مرشحين معينين، ورغبتها في إنجاحهم.
ولا شك أن الشفافية مطلوبة لكنها في كثير من الأحيان متعذرة بسبب القيود الموجودة في البلدان التي تجري فيها هذه الانتخابات ، مما يدعو الجميع إلى الاعتماد على ثقتهم باللجان الانتخابية المكلفة بإجراء الانتخابات، خصوصاً أنها ليست مرتبطة بالقيادة بشكل مباشر، كما أنها تمنع عادة من الترشح أو الدعاية الانتخابية، وبالتالي على الجميع القبول بالنتائج وعدم الطعن بها؛ لأنها الوسيلة المتاحة والأفضل لاختيار قيادات الحركة الإسلامية حاليا، وهي الفصل للخروج من أي خلاف فكري أو مسلكي، والطريق المثلى لتجديد الدماء في القيادة، وبعث الروح فيها. بل إن القيادة المنتخبة تشعر دائماً بقوة موقفها، وأنها تستند إلى قاعدة شعبية تدعمها فيما تتخذه من مواقف أو قرارات، خصوصا أن التحديات الحالية والمقبلة التي تواجه الحركات الإسلامية تحتاج إلى مواقف نابعة من دقة في التقدير، وعمق في الرؤية، ووحدة في الصف وكل ذلك تضمنه الانتخابات التنافسية الحقيقية.