أهمية المفاهيم والمصطلحات في معركة الوعي

الرئيسية » خواطر تربوية » أهمية المفاهيم والمصطلحات في معركة الوعي
knowledge-sharing24

صحيح أن كثيراً من المصطلحات حمّالة أوجه، لذلك العبرة بالمضامين والمقاصد، ومن هنا كانت القاعدة "لا مُشاحّة في الاصطلاح"، لكن ذلك لا ينافي أهمية الاصطلاح ولا يقلل من خطره، وأنه ليس في كل حين تصدق القاعدة، خاصة إذا كان المراد هو تبديل المسميات الأصيلة من ديننا بأخرى مُغرِضة. ذلك أن "الألفاظ ليست بريئة من الخلفيات الحضارية والمذهبية ولا استعمالها بالأمر الهين في أمور الثقافات والعلوم عموما وفي أمور الدين بصفة خاصة" (الشيخ فريد الأنصاري: الفطرية).

من أين نفقه هذه الأهمية في الدين؟

من إرشاد الله تعالى الصحابة أن يتحروا في خطابهم للرسول ألفاظا متخيرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]. إن لفظة "راعنا" أصيلة في اللغة العربية من مادة "رعي" بمعنى الحفظ والمراعاة والإمهال، وهو نفس معنى "انْظُرنا" أي أمهلنا، فلماذا نهى الله المؤمنين عن استعماله، ولم يُكتَفَى في السياق بحسن النوايا أو عدم الاختلاف في المسميات؟ "ذلك أن اليهود استخدموه بنية فاسدة، فأحب الله لعباده أن يتمايزوا عن أهل الباطل حتى وإن كان للكلمة معنى صحيح  ، فالمسلم مميز بعقيدته وبمظهره وبكلامه لأنه من خير أمة أخرجت للناس" (د. إياد قنيبي: من محاضرة بالقرآن نحيا).

ونفس النهج نجده في التوجيه النبوي للرد على تحية المشركين "السام عليكم" بـ "وعليكم"، ولا يشرع هنا الرد لا بالسلام (الذي هو أحسن) ولا بنفس البذاءة، وإنما المقصود التمايز (أي الاختلاف) والتميز (أي الترفع) عن مشاركة أهل الباطل لغوهم ولو على المستوى اللغوي.

نماذج لخطر التلاعب في الأسماء وما تتضمنه من تحريف المفاهيم

إن الله حرّم أمورا لابد أن تبقى قبيحة في حسّنا، لكن الشيطان يزين للناس أن يسموها بغير اسمها، وهذه الخطوة الأولى للاجتراء عليها بتهوين وقعها على الحس ثم في النفس

ما الخطر في تغيير الاسم أو الاصطلاح الأصيل من الدين؟ إنه تلبيس للمفهوم وتدليس للمُسمّى، وهذا بمثابة خطوة على طريق الاستحلال والتقليل من قبح المعصية. إن الله تعالى حرّم أمورا لابد أن تبقى مُنفّرة وقبيحة في حسّنا، لكن الشيطان يزين للناس أن يسموها بغير اسمها  ، وهذه الخطوة الأولى للاجتراء عليها بتهوين وقعها على الحس ثم في النفس:

• من ذلك مثلا، لفظة "الخمر" التي اشتق اسمها من مادة [خَمَر] بمعنى غطّى، لأنها تغطي على العقل وتخمُره، نجد بعضهم يسميها "مشروبات روحية". وقد نبه المصطفى صلى الله عليه وسلم لذلك منذ أربعة عشر قرنا: "لَيَستَحِلَّنَّ طائفةٌ من أمتي الخمرَ باسمٍ يُسمُّونها إياه [وفي رواية:يُسمُّونها بغيرِ اسمِها]" (رواه أحمد وابن ماجة وغيرهما، وهو حديث صحيح).

• كذلك الربا يسمونه تهوينا "فائدة" أو "رِبحا"، وهي كلمة طيبة تشعر بأنها معاملة نافعة كالبيع والشراء، مصداقا لقوله تعالى: {َذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 257]. وهنا يرد الله تعالى عليهم قاطعا حجتهم: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 257] فالأصل أن نبقي المحرمات على الأسماء التي سماها الله بها، إذ تغيير المسمى من خطوات تهوين تلك الحرمة في نفوس مقارفيها.

• ومن ذلك مفهوما الاغتصاب والزنا. فالزنا وهو اللفظة الأصيلة من الدين، وتشمل كل حالات الاتصال المحرمة، لا تفرق بين الرضا من عدمه. في حين "الاغتصاب" لفظة أعجمية المنشأ والمفهوم، لا تدين إلا الحالات التي تكون بغير "رضى" أحد الطرفين، في تكريس لمذاهب الشهوانية والذاتية والمتعة، فلا بأس في هذه التوجهات طالما كانت برغبة صاحبها! وفي هذا ما لا يخفى من تهوين وقع المفهوم الأول، في مقابل إعلاء مفهوم الرضوخ الشهواني (تخففه لفظة "الرضا"!) والإشباع الذاتي (تخففه لفظة المتعة الشخصية!).

وقس على ذلك الفارق بين ترويج مفاهيم:

• "المثلية" في مقابل المفهوم الأصلي "الشذوذ".
• والهُلامية الأخلاقية يسمونها "نسبية".
• وخمار المرأة المسلمة الذي يعبر عن سَمْتٍ متكامل للروح أخلاقا والجسد سترا، كله اختزل في قماشة غطاء للرأس أو "كاب" للمحجبات أو "إيشارب".
• و"التقاليد الشرقية" في مقابل المبادئ والثوابت الدينية، كما سيتضح لاحقا.

يقول الله تعالى عن المؤمنين الفائزين بالجنة: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]. وهل أطيب من الغيرة على المفاهيم والألفاظ كما أصلها لنا ربنا تبارك وتعالى؟ وإن فيما وَرَد لذكرى {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعلنا ممن استهوته الشياطين في الأرض حيران.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

الأقدار مقصودة وليست خطأ سيصحح بعد حين!

لا بد أن نعي ونذكر أنفسنا أن أقدار الله تعالى مُدَبّرة، مقصودة، مُرادة، ليست عبثًا …