عندما يذكر سياق مهارات العلم والتعلم تتبادر للذهن عدة أنساق معرفية، تشمل في الأساس ماهية العلم ومصادر التعلم ومناهجه وأدواته التخصصية، والحق أن هنالك أساسًا لابد من إرسائه قبل كل ذلك، يتعلق بمهارات أساسية لازمة لأي متعلم. والأصل أن ينشأ المتعلم على هذه المهارات في مراحل التعلم الأولى لتكون له من بعد طبعًا ودأبًا، لكن ذلك لا يمنع من اكتسابها بالتعلم الذاتي لاحقًا، إلا أنها ستتطلب مجهودًا وصبرًا أكثر.
1. المنهجية في تصفح المادة العلمية:
تصفح الكتب والمراجع لتقييمها والتخير بينها لا يكون بمجرد تقليب الصفحات والنظر في بعض السطور ! بل هو "منهجية"، ومنهجية بمراحل حسب الهدف الذي تطلبه من التصفح، يستوي في ذلك أن تكون قارئًا ذاتيًا أم باحثًا علميًا أم دارسًا أكاديميًا.وأنواع التصفح المنهجي بشكل عام 4 رئيسية:
- المسح السريع: وهو التصفح لتقييم مدى حاجتك للمادة أو إمكانية انتفاعك بها، فتبدأ بمطالعة العناوين في الفهرس، ثم تختار عنوانًا لديك حوله خلفية تمكنك من التقييم، أو استشكال يدفعك لطلب جواب، وتشرع في تصفح ذلك العنوان، بقراءة الفقرة التمهيدية، ثم الجملة التمهيدية والختامية لكل فقرة بعد، بحيث تكون تصورًا كليًا عن مدى ترابط الأفكار وسلاسة أسلوب الكاتب وكذلك مدى ثراء المادة وكفايتها لحاجتك.
- الاستخلاص السريع: بغرض طلب معلومة معينة من مكان ما في المادة، وتعتمد هذه المنهجية على الكلمات المفتاحية المقترنة بموضوعك أو غرضك.
- القراءة المتأنية: للمواد أو المراجع التي تثبت من حاجتك لها وكفايتها لك، فتقرؤها بتأن، وتحرص على متابعة الفكرة الرئيسية لكل فقرة، وتدوين ملاحظاتك أو خلاصاتك حولها.
- التفكر الختامي: بعد انتهاء القراءة المتأنية تمامًا، تنظر في خلاصاتك وتجمع بينها بما يناسب غرضك كباحث أو متعلم لموضوع.
2. المنهجية في تشكيل البنية الفكرية:
البنية الفكرية هي الطبع العقلي للفرد، وما نلاحظه من قدرة بعض الأفراد على عرض فكرهم بسلاسة وانتظام كعقد منضود، في مقابل من ينثر شوارد خاطره نثر الدقل، يتوقف غالبا على عادات الأفراد في التعامل مع بناهم الفكرية، سواء كانوا واعين بذلك أم غير واعين.
النمط المعرفي السائد متمثلا في كبسولات الفيسبوك ومواقع المختصرات وشذرات الحكم، على ما فيه من فائدة لا تنكر، إلا أنه وحده وعلى المدى البعيد لا يصنع عالمًا راسخًا ولا يبني فكرًا منظمًا
فمن اعتاد – مثلًا - القراءة بلا منهجية، والمطالعة بغير استخلاص، وتشرب الأفكار دون العناية بنسق الفكر، يصعب عليه التحول من الفوضى المعرفية للبنائية العلمية، فالبنائية في العلم تعني أنه لا شيء مما يسعى المتعلم لتعلمه هو للمعرفة "والسلام"، وإنما هو يسير وفق منهجية ومراحل متدرجة في العلم وبالتالي يكون جل ما يكتسبه يبني على بعضه، فيرسخ علمه؛ وفوق ذلك يتشكل طبع عقله ليكون بنائيًا منظمًا الفكر، كأنه تمامًا أدراج خزانة معارف مفهرسة.
لذلك فالنمط المعرفي السائد متمثلا في كبسولات الفيسبوك ومواقع المختصرات وشذرات الحكم، على ما فيه من فائدة لا تنكر، إلا أنه وحده وعلى المدى البعيد لا يصنع عالمًا راسخًا ولا يبني فكرًا منظمًا، وهذا يقودنا مباشرة للبند التالي.
3. الصبر على الرسوخ في العلم:
لا يجتمع عالم وعجلة! والكثير من الطامحين لاتساع الأفق وموسوعية المعرفة تجدهم يركزون على الكم أكثر من الكيف، وعلى سرعة الانتهاء أكثر من جودة الأداء ، وبالتالي تنتهي قوائم القراءات والمراجع، لكن يظل نموهم العقلي غير متواكب في عمره مع مقدار ما أنهوه، وإذا حاورتهم تشعر بأن لديهم "شيئًا مختلفًا" عن الجاهلين، لكنه لا يكفي ليرتقي بهم عن مرتبة السطحيين أو أصحاب "من كل بستان زهرة".
الذي لا صبر له على العلم وطول القراءة، والذي لا يطيق المراجع الضخمة ولا يتحمل أكثر من ملخصات في بضع ورقات، كيف يطمح لأن يكون طالبًا ناهيك أن يكون عالمًا
فالذي لا صبر له على العلم وطول القراءة، والذي لا يطيق المراجع الضخمة ولا يتحمل أكثر من ملخصات في بضع ورقات، كيف يطمح لأن يكون طالبًا ناهيك أن يكون عالمًا؟! -وفي ذلك يقول عباس العقاد: "أنصاف المتعلمين لا الجهل دفعوا ولا بقليل العلم انتفعوا!".
4. التمكن من الذات قبل الانفتاح على الآخر
يقول د. عبد الوهاب المسيري في سيرته "رحلتي الفكرية":
"إن أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي انفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي، وافتراض أن ثمة معرفة عالمية علينا أن نحصلها متناسين تراثنا وهويتنا. ففي أقسام اللغات ندرسها من وجهة نظر أصحابها، وهذا يعني سلبا كاملا للذات تسبب في تناقص ذكائنا، إذ نحاول عن وعي أو غير وعي أن نستبعد هويتنا الحضارية، ومعرفتنا العربية أو الإسلامية، وأي أدوات تحليلة مرتبطة بهذه الهوية. وهذا الاستبعاد عملية قمع هائلة للذات تستهلك جزءا كبيرا من طاقة الإنسانية لإنجازها، وإن نجح في إنجازها فإنه يستهلك ما تبقى عنده من طاقة. فعلى الطالب أن يصفي ذاته الحضارية حتى يمكنه البدء في الفهم والتحصيل، بدل أن تشكل الأرضية التي يقف عليها لمقارنتها بالآخر. فالانطلاق من منظور عربي إسلامي يساعد الباحث على اختيار موضوعات تحول الغرب من تشكيل حضاري مطلق إلى تشكيل ضمن تشكيلات أخرى، فننظر إليه براحة دون قلق، لأنه إذا كان تشكيلا فليس علينا قبوله أو رفضه، وإنما يمكننا أن ندرسه كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات" ا. هـ.
قبل أن نهيم في أودية الآخرين وثقافاتهم ومعارفهم، من فقه الأولويات أن نتثبت من ذواتنا ونرسخ في معارفنا وننهل من ذخائرنا أولا، وبالتالي نقبل على ما لدى الآخرين إقبال الند للند
إننا إذ ننادي ليل نهار بالانفتاح على الآخر وتقبل الآخر والأخذ من الآخر، لم نتوقف برهة لنتفكر: "وماذا عن الذات؟" إننا لم نتثبت بعد من هوياتنا حتى نضيف إليها ألوانا من هويات الآخرين! ومن عجز عن الإحاطة بمجامع هويته ومفردات تراثه ونسيج أمّته، أفلا يكون عن غيرها أعجز ؟
قبل أن نهيم في أودية الآخرين وثقافاتهم ومعارفهم، من فقه الأولويات أن نتثبت من ذواتنا ونرسخ في معارفنا وننهل من ذخائرنا أولا، وبالتالي نقبل على ما لدى الآخرين إقبال الند للند، ونتعامل معهم على أنهم ثقافات ضمن أخريات، وليست الثقافات الحاكمة للأخريات!
ختاماً.. في الجزء التالي نستكمل بقية المفاتح الستة بعون الله.