لم يخلق الله تعالى الأرض والكون في سياق واحد ثابت؛ بل خلقه – وكان قادرًا على ذلك – في إطار متغير، يتباين في طبيعته بين وقت وآخر، وفق ما تشاء حكمته البالغة.
وفي ذلك تأكيد لربوبيته سبحانه وتعالى؛ حيث هو الثابت الذي لا يتغير، ولا يعتريه الفتور أو النقصان، بينما مخلوقاته كلها، عرضة للتغيير والفتور، والزيادة والنقصان، وتأكيد لطلاقة قدرته عز وجل، في خلقه.
ومن نافلة القول في هذا المقام، التأكيد على أن التغيير هو سُنَّة الخلق، وهو ما يبدو حتى في الظواهر الطبيعية والفيزيائية، فهناك تعاقب الليل والنهار، وتعاقب فصول العام، وهناك المواد الصلبة التي تذوب بالحرارة، والسوائل التي تتجمد من خلال وسائل التبريد المختلفة، وغير ذلك.
ولقد كتب الكثير من العلماء والمفكرين عبر التاريخ، سواء في الإطار الإسلامي أو في الإطار الإنساني بمذاهبه الفكرية والفلسفية الوضعية، الكثير من المقالات والكتب، التي تؤكد على ديمومة عملية التحول والتغيير في الكون.
في تاريخ البشرية لا نجد أن هناك دعوة أثرت في جموعٍ كبرى، إلا وقد استغرقت عشرات السنين إن لم تكن بالمئات
ومن بين أهم سمات هذه العملية، هو البُطئ؛ حيث إن التحولات الكبرى في تاريخ الكون، استغرقت ملايين وربما مليارات السنين، وفي تاريخ البشرية لا نجد أن هناك دعوة أثرت في جموعٍ كبرى، إلا وقد استغرقت عشرات السنين إن لم تكن بالمئات.
بل إن التمكين لدين الله تعالى في أرضه، هو معركة مجالها الزمني، يمتد حتى آخر الزمان.
وانطلق الكثير من الفلاسفة والمفكرين من هذه الحقيقة، نحو التأكيد على أن التصدي لعملية التغيير والإصلاح، إنما هي مهمة بحاجة إلى الصبر.
ومما وصلنا من تاريخ الأنبياء والمرسلين، سواء في القرآن الكريم، أو في المرويات الموثوقة في كتب السابقين؛ فإن هناك ديانات ورسالات سماوية، مات الأنبياء والمرسلون الذين حملوا الأمانة، ولم يتم التمكين لهم بالإطلاق .
وفي السُّنَّة النبوية؛ فإن بعض الأنبياء والمرسلين، سوف يُبعث يوم القيامة، ربما مع فرد أو فردَيْن ممن آمنوا معه فقط.
وفي هذا الإطار، نجدد الوقوف أمام مشكلة مهمة قائمة في ذهنية الكثير من شباب الحركة الإسلامية، في المرحلة الراهنة، وهي الوقوف وقفة سلبية أمام التطورات الراهنة في بلدان الربيع العربي.
وأهم أوجه سلبية هذه الوقفة؛ هي أنها وقفة معطِّلة، وليست وقفة تعبوية كما هو مفترض، مع وصول البعض إلى مرحلة من اليأس من النجاح، دفعت البعض إلى التساؤل: متى نصر الله، وكأن الله تعالى ينزِّل نصره على عباده لمجرد الأماني.
والبعض في هذا الصدد، يذكرنا بقصة نبي الله يونس "عليه السلام"، عندما أَبِقَ إلى الفُلْكِ المشحون، غاضبًا من قدر الله تعالى، الذي فرض هذه السُّنَّة على قومه الذين بُعِث فيهم؛ فكانت العاقبة أن التقمه الحوت، ولولا أنْ كان من المسبِّحين؛ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون.
وقصص الأنبياء في القرآن الكريم، واضحة بشكل لا لبس فيه، وفيها الكثير من الدروس والعِبَرِ، من نبي الله نوح "عليه السلام"، الذي ظل يدعو قومه ألف سنةٍ إلا خمسين، وبالرغم من أنه لم يؤمن معه إلا قليل؛ فإنه ظل فيهم مئات السنين يدعوهم، وبنى الفُلْك في الصحراء، ولم يكلُّ ولم يكلُّ أصحابه الذين آمنوا معه، وصدعوا بأمر الله تعالى، تاركين خلفهم التساؤلات غير المجدية عن جدوى الدعوة في قوم لن يؤمن منهم إلا قليل، أو عن حكمة بناء السفين في الصحراء.
وفي هذه النقطة بالذات هناك عبرة مهمة للغاية، وهي أن بناء الفُلْك في صحراء قاحلة يعني أن المؤمنين من أتباع نبي الله نوح "عليه السلام" كان عليهم المسير لسنين طويلة لكي يجلبوا الأخشاب اللازمة لبناء السفينة، بل كان عليهم أن ينتظروا حتى تنبت الأشجار اللازمة لذلك في الأماكن البعيدة، بعد أن نفذت منها الأخشاب، وكان الشاب والرجل منهم، يعلِّم ابنه أن هذا هو واجبه في سنين عمره القادمة.
البعض يئس في بضع سنين، ربما لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكأن هناك قرآناً أُنْزَل يقول بأن آخر فرصة لقطار التمكين والإصلاح، مرتبط بسنين الربيع العربي
والآن؟!.. البعض يئس في بضع سنين، ربما لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكأن هناك قرآناً أُنْزَل يقول بأن آخر فرصة لقطار التمكين والإصلاح، مرتبط بسنين الربيع العربي.
بل إن البعض يتجاوز في موقفه هذا عن حقائق إيمانية واجبة الإدراك من جانب كل مسلم، حتى المسلم العادي الذي لا يمتلك مقومات التصدي للمشهد العام وأعباء الدعوة، والتي من بينها أولاً أن معركة الحق مع الباطل، إنما هي معركة أبدية، مستمرة إلى يوم أن يشاء الله تعالى، وأن الإسلام في النهاية، سوف يعود غريبًا، كما بدأ غريبًا، كما أخبر الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
وبالتالي؛ فإن رسالة المسلم في الإصلاح والتغيير، إنما هي رسالة مستمرة ، وكذلك أبدية حتى يشاء الله تعالى أن تنتهي الحياة الدنيا، وتبعًا لذلك؛ فإن المسلم ما عليه إلا القيام بدوره الواجب عليه في سنوات عمره التي يكون فيها قادرًا على العمل والعطاء، ثم تسليم الرسالة للجيل التالي له، الذي عليه أن يضيف لبنته هو إلى البنيان، حتى يكتمل في النهاية، قبل أن يعود الإسلام غريبًا.
وبناء على ذلك؛ فإن عملية الإصلاح والتغيير لا تقف عند حدود الربيع العربي؛ نجاحًا أو فشلاً ، فالمسلم الصالح مخلوق لرسائل يقوم بها في كل زمان ومكان؛ فلا نيأس، لأن اليأس يعني فقدانًا للثقة في الله عز وجل، وهو ما يدخل في بند الكفر والعياذ بالله.. يقول الله تعالى، في سُورة "يُوسُف": {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}.