المسلمون تحت مقصلة الوهن

الرئيسية » بصائر الفكر » المسلمون تحت مقصلة الوهن

عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قال، قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ الأمم أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ، كَمَا تَدَاعَى اَلْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ: أمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ يا رسول الله؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ اَلسَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اَللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ اَلْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اَللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ اَلْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، وَمَا اَلْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ اَلدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ اَلْمَوْتِ" (رواه أبو داود، وهو حديث صحيح).

تلك هي آفة المسلمين في كل عصر، بل آفة كل أمة تنازلت عن حقوقها ومهمتها ورسالتها فتختار الوهن لها سبيلاً ينفض عنها كل سبيل للعزة والقوة والمنعة، فتسكن وتستسلم وتذوب ثم تأخذ في الانحطاط والتلاشي.

تلك هي آفة الشعوب الذين يستسلمون لاستبداد الحاكم الفرعون ويرضون منه بالفتات ويسبحون بحمده ليل نهار، خوفاً على أعمار وأرزاق قد تكفل الله بها وجعلها في يده وحده سبحانه دون غيره من حاكم أو مسئول أو ولي أمر، وجعل سبحانه النفع والضر بيده وحده، قدراً مقدراً عليهم، فيقول الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه ابن عباس رضي الله عنه: "وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" (رواه الترمذي وهو حديث صحيح).

وصارت القضايا المحسومة هي الشغل الشاغل للمسلمين عما خلقوا هم له، فصاروا على الدنيا عالة، وعلى الحضارة الغربية العرجاء ضيوفاً، وعلى العلم غرباء بينما هم أصحاب دين أول كلمة في رسالته "اقرأ"، وصاروا من الهداية بعيدين، وعن السلام الذي هو رسالة الإسلام للبشرية في واد آخر منها، يتناحرون فيما بينهم، ويرضون بالدنية من كل شيء!

صارت الحيطان لها آذان في بلاد المسلمين، فحرم الكلام والهمس بكلمة الحق فضلاً عن الجهر بها، وعبد الناس حكامهم خوفاً واستكانة بعدما نصبوهم أنصاف آلهة

وصارت الحيطان لها آذان في بلاد المسلمين، فحرم الكلام والبوح والهمس بكلمة الحق فضلا عن الجهر بها، وعبد الناس حكامهم خوفا واستكانة وتسليما بعدما نصبوهم أنصاف آلهة، وصار الإسلام غريبا في أرضه مثلما بدأ غريبا، لا يحمل المسلمون منه إلا رسماً في هوية.

وجعلت وسائل الإعلام غايتها الكبرى محاربة روح الدين، ومهاجمة شرائعه والتنصل من الانتماء إليه ومحاولة تفريغه من مضمونه ليصير ديناً كهنوتياً يؤدى داخل أروقة المساجد لا يتخطاها، فصرنا نسير على الأرض عقيدة معطلة وشريعة غائبة، لم تغنينا حضارة شقت قلب الصحراء والتاريخ في أحلك سنواته لتضيء للعالم درباً جديداً من نور خاص يحمل بين جنباته شرف الدنيا والآخرة، ولم يغنينا قرآن يتلى ليل نهار لا يتخطى الحناجر  .

وصرنا اليوم نهبة لكل الأمم تنهشنا من كل ناحية في كل ربوع بلاد المسلمين، وصارت دماؤنا بغير ثمن، في بورما والهند والصين وسوريا واليمن والعراق ومصر وليبيا، وصار ديننا رمزاً للإرهاب، بل يكفي أن تكون مسلمًا في أي مكان في العالم ليشار لك بالتخلف والرجعية بل والهمجية  .

الخيرية شروط وعمل وجهد يبذل ليل نهار ومهمة يسهر من أجلها أهلها ويبذلون حياتهم وأموالهم ودماءهم مختارين في سبيل تلك الغاية المنشودة

وصدق قول الله عز وجل فينا حين نبهنا لخطورة منزلق التخلي عن مهمتنا الأساسية التي خلقنا من أجلها، تلك المهمة التي ميزتنا بأمة الخيرية حيث يقول عز وجل في كتابه العزيز: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110].

والخيرية ليست قدراً مقدراً على أمة بعينها، وليست حقاً مطلقاً بالوراثة أو بالتبعية لنبي من الأنبياء، إنما الخيرية شروط وعمل وجهد يبذل ليل نهار ومهمة يسهر من أجلها أهلها ويبذلون حياتهم وأموالهم ودماءهم مختارين في سبيل تلك الغاية المنشودة، ومهمة أمة الإسلام حددها رب العزة في تلك الآية الكريمة لتحصل على ذلك العهد الذي هو نتيجة لشرط العمل به، فأنتم خير أمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، والخيرية لا تعني السيطرة والعلو، وإنما تعني المسئولية والنفع، فأنتم أيها المسلمون أنفع أمة للناس وللخلق أجمعين إن أنتم قمتم بواجبكم كاملا، وهو حمل هذا الدين بين الخلق بالعمل به والدعوة له، رحمة من الله على البشرية وإنقاذا لها على أيديكم بالمنهج الذي تحملوه إن لم تبدلوا ولم تغيروا.

واليوم تخلت الأمة عن أسباب تلك الخيرية في سبيل فتات لا يقيم حياة، فضلا عن بناء حضارة، فسلط الله علينا الأمم تنهش فينا نهشا، وصرنا للتاريخ أضحوكة ووقعنا تحت تلك المقصلة التاريخية التي لا ترحم بينما يقول رب العزة محذرا هذه الأمة المختارة من الوقوع في براثن الخلاف والضعف والتشتت والتخلي {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8].

كيف أيها المسلم، يا من تحمل مشعل الهداية المكتملة والعدالة المطلقة أن تستسلم للضعف والهوان والمذلة والضعة وتترك مكانك لمن لا يتقوا الله فيك إذا هم انتصروا عليك ليذيقوكم بأسا وأهوالا لا تقدروها حق قدرها؟

كيف تتخلى يا من تحمل مشعل الهداية والسلام لمن تعلم أنه لن يعاملك يوما بهدي أو سلام؟ وها هو التاريخ يثبت أنه ما تخلى المسلمون يوما عن مهمتهم إلا ودمرتهم الأمم تدميرا  .

فها هي روسيا تبيد حلب، وها هي إيران وعملائها تبيد الموصل، وها هم الصهاينة يغتصبون المقدسات، وها هو ترامب يتوعد المسلمين في العالم بحرب إبادة لا قبل لهم بها، وها هي الأرض كلها تعاني دماء المسلمين وأنات المسلمين وصيحات المسلمين.
إن على أمة المليار ونصف المليار مسلم الآن أن تقرر ماذا تريد؟ بعد أن تعرف واقعها المر وحاضرها الغائب عن ماضيها بمساحات الزمن الذي تقف بينها وبين المهمة الأساسية التي خلقت لها، فإما أن تقرر التغيير وتحمل مسئوليتها كاملة أو تجري عليها السنن التي وضعها رب العزة في كتابه العزيز {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد:38].

لم يعد هناك خيارات تتحرك فيها الأمة، فاليوم تكون أو لا تكون، تنهض أو تباد، تستعيد وعيها ومكانتها أو تتلاشى كما تلاشت أمم من قبل لتكون سنة الاستبدال سارية

لم يعد هناك خيارات ولا سعة من وقت تتحرك فيه الأمة، فاليوم تكون أو لا تكون، تنهض أو تباد، تستعيد وعيها ومكانتها وحضارتها أو تتلاشى كما تلاشت أمم من قبل لتكون سنة الاستبدال سارية، تلك السنة التي لم تحابي المسلمين في أحد في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن تحابيهم اليوم بحال من الأحوال.

والأمل لم يخفت بعد، والأمة ما زالت تنبض بالحياة بعد  ، فلسنا نوجه أحاديثنا لأموات وإنما لأحياء يتألمون لواقعهم، سواء كان واقع الجوع، أو المرض، أو التبعية، أو عمالة الحكام، أو براميل الغازات السامة التي تلقى على أطفال المسلمين.
ما زالت الأمة تتألم والألم في حد ذاته حياة وأمل في التغيير، وطالما أنه ما زال هناك شرفاء يجهرون بكلمة الحق، وطالما هناك علماء يعلمون واقعهم ويحاولون البحث عن مخرج، وطالما هناك في سجون البغي سجناء صامدون فالأمل ما زال حياً ولن نكف عن المحاولة في إيقاظ النائمين، وتنبيه الغافلين.

إن الأمر شاق، وهكذا هو طريق الأنبياء وتابعيهم ومن حمل رايتهم إلى يوم الدين، والصراع بين الحق والباطل لن يزول ولن ينتهي حتى ينفخ في الصور النفخة الأولى  ، ومع تلك المشقة فالأخذ بالأسباب الكاملة فريضة، والإعداد لكل صغيرة وكبيرة فريضة، والتخلق بأخلاق القرآن فريضة، والتحلي بالصبر فريضة، واستكمال أسباب القوة فريضة، والعلم فريضة، والصحة فريضة، والتآخي بين المسلمين فريضة.

ولن تقوم للمسلمين قائمة، ولن يخرجوا من عباءة الوهن، حتى يسيروا في نفس الطريق الذي سار عليه أسلافهم، فنحن كما قال الإمام العادل عمر بن الخطاب: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة مصرية، مهتمة بالشأن الإسلامي العام، حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة، وكاتبة في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، لها العديد من المؤلفات المنشورة، مثل: المنهاج في الدروس المسجدية للنساء، معالم على طريق التمكين الحضاري، وأبجديات الثورة الحضارية وغيرها.

شاهد أيضاً

الإبراهيمية: نحو دين عالمي إنساني جديد!

عجيبٌ جدا، أن الذي يسعى بقوة للإتيان بدين جديد، يجمع فيه الأديان السماوية الثلاثة، هو …