أنتَ
أليست تلك التي كانت يوما حبيبتك؟
سترك؟
سعادتك؟
راحتك؟
أليست تلك التي اخترتها من بين فتيات الدنيا جميعهن؟
أليست تلك التي كنت تهرع إليها حين يلم بك خطب ما وأنت توقن أنه لن يجبر كسرك سواها؟
أليست تلك التي طعمت من بين يديها؟ وسقتك بيدها شربة ماء في جوف الليل؟ أو ناولتك بيديها قرصاً من الدواء وسهرت على راحتك وأنت تغط في نوم لا تدري عن الدنيا شيئاً؟
أليست تلك التي أفضت إليك بكلمة الله؟ وملكتها بموثق مع الله؟ وتركت بيت والديها واستبدلت أهلها جميعاً ورضيت بالعيش معك، بل أسعدها العيش معك وحدك من دونهم جميعاً؟
ألم تعِد وليها ــ وأنت تضع يدك في يده سعيداً مختاراً ــ بصونها؟
ألم تعدها يوماً بأنك ستفني ذاتك في إسعادها؟
فماذا الذي حدث اليوم لتلقي بكل ذلك جانباً دون أن تراعي لحظة ود واحدة لها بذلتها في سبيل إسعادك وإرضائك يوماً؟ لحظة خاصم النوم عينيها، وتورمت جفونها بكاءً علىك حين مرضت يوماً وخاصمت الحياة حتى تبرأ؟
أنتِ
يا من سهرت الليالي باكية حين شعرت فقط أن والدك يفكر في رفضه وأنه من الممكن أن تحرمي منه مدى الحياة؟
يا من اشتعلت سعادتك حين قبل والدك به زوجاً لك لتفيض على العالم دفئاً وبهجة؟
يا من وهبته ذاتك راضية، وجعلته ستراً بكلمة، وحصناً بوعد؟
يا من اختصرت كل أمنياتك في إسعاده وإرضائه، وجعلت طلباتك منه هو وليس من أبيك؟
يا من تبوحين له بما لا يجب البوح به إلا له؟
يا من حملك مريضة وقد كنت تخجلين أن يحملك أبوك أو أخوك ويمس جسدك دون ستر كاف يليق بحيائك كفتاة مسلمة؟
يا من كنت عزيزة في بيته، تختالين به أمام صديقاتك، وتتيهين به فخراً وعزاً، يعمل جاهدا ليكفيك احتياجاتك كلها، ويضع بين يديك مستقبله وأحلامه وأمنياته، ألا تذكرين؟
ما الذي حدث الآن؟ هل كان ملاكاً حين الود وصار شيطاناً مع خلاف أودى بصرح حياتك معه فصرتما غريبين بعدما كنتما أقرب المقربين، بل كنتما واحداً؟
هل صار الاستبداد السياسي يخرج أسوأ ما في الناس، حتى صارت الأخلاق نوعاً من العبث الذي لا طائل من ورائه، وأصبح لزاماً على الجميع أن يدمر الآخر كي يحيا هو، أو يرضي بعضاً من غروره كإنسان
حتى لو صار الأمر كذلك، فأين ود سنوات العمر التي تشاركتما فيها فكان همكما واحداً، وفرحكما واحد، وألمكما واحداً، وأمنياتكما واحدة؟ بل أين يا حبيبتي ود لحظة حين يأتي المساء ولا يعود فيبلغ بك القلق مبلغاً يفقدك راحتك وعقلك حتى تطمئني برؤيته، ويطرح همومه بين يديك لتريحه كلمة منك، مجرد كلمة؟
ما الذي حدث في بيوت المسلمين، وأخلاق المسلمين؟ أم أن الاستبداد السياسي يخرج أسوأ ما في الناس حتى صارت الأخلاق نوعاً من العبث الذي لا طائل من ورائه، وأصبح لزاماً على الجميع أن يدمر الآخر كي يحيا هو، أو يرضي بعضاً من غروره كإنسان، رجلاً كان أو امرأة؟
ما الذي حدث في بلادنا حتى تدنى مستوى الخلاف فصارت أسرار البيوت التي كانت يوماً حصناً، تنشر على صفحات التواصل الاجتماعي ، فيمارس أحدهما سطوته على الآخر بالتشهير المقزز، وتكون الغلبة لمن يجرح في الآخر أكثر، ويحطم الآخر أكثر، ويقضي عليه أولاً؟ ما الذي حدث في بلاد المسلمين لتصير الحصون التي أنشأها الله على عينه وبكلمته هشة بهذا الشكل المهين لنا جميعا ، وتهديدا لجيل نؤمل فيه أن يعود عز الإسلام على يديه؟ ثم كيف نعول على هذا الجيل أصلا في ظل فساد أبوين انتهت الحياة بينهما ـــ ولست أرى في ذلك ضيرا وقد شرع الله الطلاق ـــ فحرص كلاهما على تشويه الآخر لدى الأبناء وأمام المجتمع ليخرج من بينهما مسخ لا يقدر قيمة دين أو خلق أو وطن أو أسرة؟ما الذي تشوه فينا وما الذي فقدناه في ظل هجوم شرس على آخر ما تبقى للمسلمين من حصون، وهو الأسرة المسلمة القوية المتينة الحاضنة لجيل لم يأتي بعد؟
اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى حين تحدث عن المهر واسترداده حين الانفصال الحتمي المقدر {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21].
يقول الشهيد سيد قطب في ظلاله في تفسير تلك الآية الكريمة: "ويدع الفعل: {أفضى} بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقاً يشع كل معانيه ويلقي كل ظلاله ويسكب كل إيحاءاته. ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان.. وفي كل اختلاجة حب إفضاء. وفي كل نظرة ود إفضاء. وفي كل لمسة جسم إفضاء وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء. وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء. وفي كل شوق إلى خلف إفضاء. وفي كل التقاء في وليد إفضاء.. كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: {وقد أفضى بعضكم إلى بعض}.. فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف".
أخي الزوج، أختي الزوجة، إن الإسلام الذي أولى المؤسسة الأسرية رعاية واهتماماً خاصاً لم يترك الأمر للأهواء والغضب المفتوح وردود الأفعال غير المسؤولة، وإنما قنّن العلاقة الزوجية بحدود لا يسمح للآخر بالخروج عليها
أخي الزوج، أختي الزوجة، إن الإسلام الذي أولى المؤسسة الأسرية رعاية واهتماماً خاصاً لم يترك الأمر للأهواء والغضب المفتوح وردود الأفعال غير المسؤولة، وإنما قنّن العلاقة الزوجية بحدود لا يسمح للآخر بالخروج عليها؛ حماية لها وصوناً، والنفس الإنسانية متقلبة بطبيعتها والخلافات واردة لكن التعامل معها هو ما يجب الحديث فيه وتحكيم شريعة الله عز وجل الذي أحل أحدكما للآخر بكلمة منه إذا حدث ما يكدر صفو تلك العلاقة أو يهدد بقاءها. يقول عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عليهنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عليا كَبِيرًا} [النساء:34].
القوامة هي مسؤولية الزوج عن زوجته، من حيث الإنفاق الكامل والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتربية والإرشاد، تلك هي الحياة المعتادة، أما في حالة النزاع ونشوء مشكلات طارئة فلا يجب ترك الأمر للوقت حتى لا تتفاقم المشكلة وتستعصي على الحل، إنما الإسراع في حلها يئدها في المهد. والقائم على ثلاثة أمور:
أولاً / الوعظ:
فالحر يكفيه الإشارة، والنفس السوية يهذبها الوعظ والتنبيه ويكفيها لفت النظر والتذكير بالله وبالعشرة الطيبة .
ثانياً / الهجر في المضجع:
والهجر هنا يكون داخل المضجع بمعنى أن الزوج لا يترك البيت ويتركها نهبة للشيطان ينفخ في نار الشقاق في قلبها ظناً منه أن الابتعاد قد يحل المشكلة، ونلاحظ أن الأمور ما زالت هنا في طي الكتمان، داخل غرفة الزوجية لا يشعر بها من هم خارج بابها خاصة الأبناء، الأمر بين الزوجين لا يصح أن يخرج لطرف ثالث مهما كانت مكانته إلا باستحالة الصلح بينهما؛ حتى لا يترك ذكرى غير طيبة أو صورة غير مقبولة لأحدهما في نظر البعض، فلا أقرب للزوج من زوجته وليس أقرب منه إليها.
الأمر بين الزوجين لا يصح أن يخرج لطرف ثالث مهما كانت مكانته إلا باستحالة الصلح بينهما؛ حتى لا يترك ذكرى غير طيبة أو صورة غير مقبولة لأحدهما في نظر البعض
ثالثاً / الضرب:
وقد فهم البعض مسألة الضرب هذه فهماً معوجاً، فنجد بعض النساء وقد كسرت أضلعهن أو شوهت وجوههن وصار العنف ضد المرأة دليلا يتباهى به البعض ويستدل به على رجولته. وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في حجة الوداع: "واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف". قال ابن عباس وغير واحد: ضرباً غير مبرح. قال الحسن البصري: يعني غير مؤثر. قال الفقهاء: هو ألا يكسر فيها عضواً ولا يؤثر فيها شيئاً.
فإن أطاعت المرأة ورجعت وألانت جانبها فهنا وقت التوقف تماماً، والعودة لما قبل المشكلة من ود وتفاهم وكأن شيئاً لم يكن. فلا بغي، ولا اعتداء، ولا عقاب، ولا قصاص، ولا شئ في النفوس سوى الحب والتقدير والاحترام، فماذا إذا استفحل الأمر أكثر وأبت الرضوخ والعودة للحق؟
هنا لا تترك المؤسسة الأسرية كذلك لهبة ريح تغرقها، وإنما يستوجب التدخل من طرف ثالث تكون غايته الإصلاح. يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عليمًا خَبِيرًا} [النساء:35].
حكمان مقربان منهما، لا يفشيا الأسرار، ولا ينتهكا حرمات السفينة التي تتلاعب بها الريح، هذا حين يتعلق الأمر بنشوز المرأة وإعراضها عن الصلح وقبول حل يصلح ما فسد.
وفي الناحية الأخرى حين يكون الزوج هو من يظلم ويرفض الرجوع يقول رب العزة في موضع آخر في سورة النساء: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عليهمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً{128} وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً{129} وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً{130}.
فالحكم موجود لأن عملية التأديب بتدرجها لا تملكها المرأة، فهي إن استطاعت الوعظ بالتفاهم واللين والهدوء والتذكير فلن تستطيع الهجر ولا تملكه، ولا تستطيع الضرب ولو كان هيناً، فهنا يجب أن يتدخل من يريد الصلح "والصلح خير"، وفي تلك الآية يوضح القرآن أمراً هاماً، أنه في حالة وجود زوجة أخرى فلا يجب أن يظلم التي حدثت معها المشكلة ويرحل عنها إلى الأخرى بحثا عن الراحة، فذلك إجحاف وظلم، ربما يميل بقلبه لإحداهما والتي تمثل له الجانب المريح، إنما الميل القلبي وجب معه التحكم بالجانب السلوكي، فلا يذر إحداهما كالمعلقة فلا هي بزوجة ولا هي مطلقة فتجرب حياة أخرى مع زوج آخر قد تكون معه أكثر تفهماً وقد يكون لها أكثر حباً.
أخلاق الناس لا تقاس في وقت الرفاهية، وإنما تقاس في وقت الخلاف الشدائد، ومعاني الرجولة والمروءة تظهر كلها في أوقات الشقاق
هنا تظهر معادن الرجال ومدى الالتزام بأحكام الدين، فأخلاق الناس لا تقاس في وقت الرفاهية، وإنما تقاس في وقت الخلاف الشدائد، ومعاني الرجولة والمروءة تظهر كلها في أوقات الشقاق.
أخي الزوج، أختي الزوجة: وقت الفراق تعاليا بدينكما وعشرتكما وأيامكما معاً عن دني الأخلاق فهذا أمر ربكما ، تذكروا أنه حين تنهدم تلك المؤسسة فليس هناك مكسب وخسارة، ليس هناك غالب ومغلوب، إنها المعركة التي يخرج منها الجميع خاسراً بكل ما تعنيه كلمة خسارة، إنه الكسر الذي قد يجبره غيره أو غيرها، فلا تحطموا ما تم تحطيمه بالفعل، واتقوا الله الذي إليه تحشرون، ذلك هو الصرح الأخير في بلادنا فعضوا عليه بالنواجذ، فإن لم تستطيعوا البقاء فارحلوا عسى الله أن يغني كلاً منكما من فضله، فإن فقدتم الصرح، فلا تفقدوا الأخلاق والعشرة الطيبة واستبقوا شيئاً تحيا به أمة الإسلام الشاردة.