خطر ظاهرة الآسك والاستشارات الجماهيرية

الرئيسية » بصائر تربوية » خطر ظاهرة الآسك والاستشارات الجماهيرية
Ask.fm31

تأملات في ظاهرة الاستشارات على الملأ وتداول النصائح والتوجيهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي:

1. من حيث المبدأ، فالاستشارة فرع عن الفتوى الشرعية في كون السائل والمسؤول يعتمدان مرجعية الدين في الاستنصاح والنصيحة. فهي من هذا الجانب تتطلب قدرًا غير هين من حسن الفهم والتصور للمسألة وأحكامها، من حيث أصولها ثم صور التنزيل المختلفة بحسب حال السائل. ومصيبة "المعلوم من الدين بالضرورة" أنه ليس كل أحد يعلمه على الوجه الضروري، ناهيك أن يحسن إيصاله على الوجه الضروري كذلك.

2. ويضاف للاستشارة أبعاد اجتماعية ونفسية وسياقات قد تتداخل مع حال الفتوى، لكن الشاهد أن هذه الأبعاد تتطلب قدرًا غير هين كذلك من حسن فهم "حال السائل" وتكوين تصوّر متكامل للحيثيات المحيطة بالسؤال. ذلك أن الذي يصل لمفترق طرق يحار عنده في الاهتداء لخير الخيرين أو أهون الشرين أو أي تفاضلين، لم يصل لذلك المفترق إلا بعد أن مر في طريق متكامل ربّما يكون مبدؤه كلمة في طفولته الأولى! فسؤال السائل ليس مجرد علامة استفهام طائرة في الهواء منفصمة العُرى عما قبلها وما بعدها.

الذي يصل لمفترق طرق يحار عنده في الاهتداء لخير الخيرين أو أهون الشرين أو أي تفاضلين، لم يصل لذلك المفترق إلا بعد أن مر في طريق متكامل ربّما يكون مبدؤه كلمة في طفولته الأولى!

ومن صدّره الله في هذا المجال العسير المحفوف بالمخاطر، مجال الاستشارات حيث الكلمة تغير مجرى حياة وحيث الكلمة قد تهوي بالسائل والمسؤول أو ترتفع بهما، لا يبعد أن يكون ذاق معنى أن يقضي سحابة أيامه خارجًا داخلًا لا لعمل إلا ليسمع من هذا ويستمع لذاك، وإن تعذر الخروج فأذنه لصيقة بسماعة الهاتف، أو مثبتتة على شاشة محادثة تتعدى الـ 300 حرف التي يسمح بها صندوق الآسك!

3. وصندوق الآسك وما شاكله من صناديق "أجنبية" قامت في الأساس للأسئلة العامة ذات الطابع الرقمي (أي التي يسرد جوابها في أرقام أو قواعد) مثل موقع كورا الشهيرQuora.com ، أو سؤال الشخص عن نفسه أسئلة كذلك جوابها من نفس النوع : ماذا تحب؟ ما لونك المفضل... إلخ. أما النسخة المعرّبة عندنا من تحويلها لمكاتب استشارات اجتماعية، فيختزِل حال السائل ويسطّح التصور الذي ينبغي أن يتشكل لدى المسؤول، ليصير الأمر أشبه بفيلم فتحته في منتصفه عند فقرة يظهر فيها قاتل ممسك بسكين وأمامه جثة مقتول غارقة في دمائها. صندوق الآسك لا يتيح فرصة لغير الحكم المباشر بأن هذا مشهد قاتل ومقتول وجريمة قتل. أما سياق الاستشارة الحقة فسيتطلب أسئلة من نوع:

- من القاتل؟ ومن المقتول؟ (من حيث تاريخهما وصلتهما ببعضهما)
- فيم قتل القاتل المقتول؟
- وهل قصد قتله ابتداءً؟

وحتى على فرض أنه قصد أن يسرقه مثلًا، لم ينته رسم التصور الكافي عند هذا الحد، بل:
- لماذا يسرق؟ ما دافعه للسرقة؟ لعله كان يسترد ما سرقه المقتول منه أو اغتصبه بغير وجه حق بداية!
- وما الذي دفعه لقتل المسروق؟ لعل بينهما من الثأر أو القصاص ما بينهما!

4. إذن ذاك الذي يصل لتلك اللحظة، لحظة البوح بالجانب المؤلم في نفسه، لا يصل لها في يوم وليلة، ولا منفصمًا عن سياق متكامل، ولا إشكاله الرئيس في ذات السؤال الذي هو لا ريب تحصيل حاصل لسلسلة تساؤلات لم يجب عنها قبلًا أو سوء فهم لحلقة واحدة جارت على البقية مثلًا. إن الأمر أشبه بملف المريض في المستشفى وتاريخه المرضي؛ وأي طبيب يحترم نفسه ومهنته لن يتجرأ على "تخمين" حلول وطرح علاجات مما بدا له من ظاهر المريض!

إن الأمر أشبه بملف المريض في المستشفى وتاريخه المرضي؛ وأي طبيب يحترم نفسه ومهنته لن يتجرأ على "تخمين" حلول وطرح علاجات مما بدا له من ظاهر المريض

فالتي تأتي تولول لأن زوجها تزوج بثانية تكبره وتكبرها عمرًا، تحتاج أكثر بكثير من فتاوى حِلّ تعدد الزوجات وتذكرة بالخوف على الأولاد ولم شمل الأسرة، بل إن ولولتها في الغالب لأنها "تعلم" هذا "المعلوم بالضرورة"، لكن العلم والفهم على السياق النظري الفكري شأن، وتواطؤ النفس والقلب على تقبله وتفهمه شأن آخر. وقد يستغرق القلب وقتًا أطول ليُواطئ ما أقرّه العقل، فالشأن هنا ليس في الإقرار بمتن القناعة وإنما في الصبر على حواشيها حتى تختمر في الوجدان. هذا نوع من المشورة مثلًا حله الرئيس في وجود مستمع يتفهم هذه الفجوة ويتعاطف مع من يعيش معلقًا فيها – دون أن يجادله أو يحاججه عقليًا في هذه المرحلة -، ويأخذه بالطبطبة والرفق والموافقة حتى يعبر الفجوة النفسية، فيصير وقتها صحيح العقل سويّ الإدراك، ليبدأ عندئذ طرح الحلول واقتراح صور العلاج.

والتي تنتحب من أفعال أخيها المراهق، في حرقة على ما يؤول إليه من انحدار، لا يلزمها مزيد وعظ من الإصرار على نصحه وعدم اليأس منه ثم رفع أمره وفضحه أمام الوالدين لينزجر! بل يلزمها حقيقة أن تنتبه لحس السلطة الذي يفرُط منها في ممارستها مع أخيها – المتسرب غالبًا في غفلة مستسرا وراء مشاعر أمومة فطرية -، وتنبه إلى أنها في نظره أخت لا أم، فقبل أن تأمره وتنهاه لا بد أن تصاحبه وتكتسي في عينه حقًا بكسوة الصديقة وحلة الأم، ليثق بها بداية ويطمأن إليها فتقع أصلًا في نفسه موقعًا حسنًا يدفعه هو لطلب النصح منها وبسط دواخله بين أحضانها. هذا سيعني كثيرًا من الصمت وطول السماع للطرف الآخر، كثيرًا من التفهم والاحتواء وإن لم توافقه على ما يفعل، كثيرًا من الصبر عليه هو حتى يفيق من سُكره فيستطيع أن يعي عنها. وفي نفس الوقت أن تكون هي قدوة في نفسها خير له ولحنجرتها من كثرة الأوامر التي تبدو في حقه جريمة لو فرّط فيها – كتأخير الصلاة - لكن لو صدرت منها فلا بأس لأنها "الملتزمة" في المشهد.. ومن منا لم ولا يؤخر صلاته لأمر ما سواء مبرر شرعًا أم غير مبرر؟ لكننا مع الآخرين سيف مُصلت على الرقاب، وفي معاملة أنفسنا نلتمس لها فوق السبعين عذرًا سبعمائة!

5. وغنيٌ عن القول أن أي متصدر صدّره الله تعالى في هذا المعترك ليس ملاكًا ولن يكون، ولعله وقع في حال كحال أحد سائليه أو أنكى، بل إنه لا ريب واقع في تفريط من نوع ما بينه وبين ربه، بما الله به أعلم وإن غفل عنه العباد. ففيم تتحول الاستشارات من بيان أحكام شرعية أو تطارح حلول مرئية، لإصدار أحكام شخصية وقذف بالهمز واللمز بين السطور؟! أو يحصل العكس بسبب التحيز المتعاطف مع السائل لسبب ما، ينشأ عنه جَوْر في صدق مناصحة السائل بخطئه، أو التمادي في الطبطبة والتربيت على انحرافه من بعيد.

إن بعض الصواب في الخطأ لا يجعل الخطأ صوابًا ، هذه واحدة.

وثانيًا، إصدار الأحكام والتشريع ليس من اختصاصنا أصلًا كمخلوقين، لأن "الإصدار" من حيث هو إصدار فمن عند الله رأسًا، ثم يُفرّع عليه أهل العلم الراسخون في العلم بأمر الله وحسن الفهم عنه تعالى. غاية ما يفعل العوام من غير أهل العلم أولئك، أنهم يُصدرّون لعوام مثلهم، لكونهم أعلى كعبًا في الفهم أو أسبق قدما في الخَطو ليس إلا. فكل ما يحق للمسؤول في هذه السياقات أن يرجع لأحكام صادرة بالفعل، لا أن يصدر من عند نفسه أحكامًا يرقعها ويلفقها من فهومه الشخصية وهو يرتشف كوب الشاي، ضاربًا عرض الحائط بفهوم الجهابذة الذين كانوا يقطعون الفيافي والقفار ماشين في حر الصيف وبرد الشتاء للثبت من حديث رسول الله خشية التقوّل عليه!

6. فإنّا لم نُوقَ النقص حتى نطالب بكمال الآخرينا [أحمد شوقي] فالذي يُشرِف على مشهد نار من عَلٍ غير ذاك الذي جسده وروحه مادة النار نفسها!   وما يظهر من المسؤول أو المستشار من حكمة وتجرد للحق إنما هو توفيق يَحمد الله عليه، ويتنبه إلى أن سياقه يتيح له أن يقاربهما. لكن ذلك لا يعني أن يركَن إلى اعتقاد بلوغه التجرد ويلبس نفسه ثوب لقمان الحكيم! فلا يبعد أن يجد نفسه قد وقع فيما كان ينهى عنه أو قصر فيما أمر به، أو حار فيما كان يرى أنه لا يحار فيه إلا سبهلل! {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور : 21]

وهذا البند يلفت النظر إلى التخفف من هيلمان المشيخة وتصدير صور مثالية عن الناصح المفوّه والمستشار الحكيم وقائمة طويلة من الـ "الأل" التي تفيد الحصر والقصر، ومن ادّعى أنها لا تؤثر في نفسه فدعواه أعجب من أثرها!

7. وأما النشر على الملأ فهذا لب المصيبة الأكبر، ذلك أن معترك الفتاوى والاستشارات يقوم في الأساس على اختيارات مخصوصة في سياق مخصوص لسائل مخصوص استنصح مخصوصًا، فبأي حق بعدها تعمم وتنشر على الملأ  ويبدأ الجمهور في الاستشهاد بها وإسقاطها ذات اليمين وذات الشمال؟! ولو كان في النشر اختيارات لما يذاع وما يظل طي الكتمان لربما هان الخَطب، أما المكتب المفتوح على الملأ فهو أشبه بسرير كشف في ميدان عام لكل غادٍ ورائح!

ليس كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال يذاع، ولا كل ما أذيع يُفهم على وجهه المقول فيه

هذا ليس مما يعم به النفع بقدر ما تعم به البلوى! إذ ليس كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال يذاع، ولا كل ما أذيع يُفهم على وجهه المقول فيه! وكم ممن يطلع على هذه الاستشارات المختزلة سيسقطها على سياقه أو يستنسخ النصيحة لكل حالة "مشابهة"، وربما استنتسخ الأحكام والأفهام، وشأن الله أكبر من ذلك، وشأن عباده أخطر من ذلك!

وربما كان خيرًا من كل ذلك كتابة خاطرة أو مقالة متكاملة، تكفي كل قارئ لها أن يكون تصورًا معيًنا عن جزئية معيّنة ؛ أو بحث علمي كامل لمن شاء أن يستوفي الحالة بمختلف الأبعاد.

8. ولكل سائل هذه نصيحة مجرّبة ناجعة نافعة لكل سياق وأي حال :
- ابدأ بربك فأقبل عليه بكليتك كيفما كان حالك ومهما كان تقصيرك. ابدأ بخالقك الذي سوّاك فخلقك فعدلك، والذي يعلم السر وأخفى، والذي يجيب المضطر ويكشف السوء ويستر على العباد. مرغ وجهك في سجود ابتهال وارفع يديك في أنين مناجاة. وكن على يقين أن مبدأ كل خلل هو من التفريط في هذه الآصرة بينك وبين ربك وعدم تعهدها، ومبدأ كل إصلاح في استعادة تلك الآصرة. ووالله، الله قريب! أقرب من كل أولئك.. أقرب من حبل الوريد!

إن لم تكن ستحسن الاستنصاح فاكتف بما بينك وبين ربك واحفظ ماء وجهك بداية، أو لا تندفع في الأخذ الكامل بنصيحة ناصح ذي تصور مجتزأ

- ثم إذا استنصحت فاستنصح ناصحًا ثقة من حيث متانة علمه بالدين، وورعه من التكلم فيه بغير علم، وحكمته في النصح وصدقه في المناصحة، فإن لم تكن تعرف من تطمئن إليه على ذلك النحو، فطب نفسًا إذا كنت أتممت الخطوة السابقة ثابر عليها فإما أن يفرجها الله بفتح من عنده، أو يرزقك من حيث لا تحتسب ناصحًا خيرًا مما رجوت.

- واحرص على جدية المشورة والاستنصاح، بذكر الجذور والحيثيات والسياقات المعنية بما تشور فيه، ولا تختزل شيئًا منها أو من نفسك ، وأما المصيبة الختامية التي تسأل فيها مباشرة فهي في الغالب تحصيل حاصل لما سبق. هذا التصور المتكامل من خير ما يعين من تستنصحه أن يحسن النصح لك، فإن لم تكن ستحسن الاستنصاح فاكتف بما بينك وبين ربك واحفظ ماء وجهك بداية، أو لا تندفع في الأخذ الكامل بنصيحة ناصح ذي تصور مجتزأ.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …