“رابعة”.. من البكائيات إلى تصحيح المسار

الرئيسية » خواطر تربوية » “رابعة”.. من البكائيات إلى تصحيح المسار
RABIA16

سألني أحد الأحبة يومًا: ما رأيك في اعتصام رابعة؟ واستحلفني أن أكون صادقًا بعيدًا عن الدبلوماسية والتسكين، فقلت له بمنتهى الوضوح: رابعة بمن فيها هي الطهر، والرقي، وصواب الفكرة، والعفاف، ولا غبار على ذلك، غير أنها في توقيتها هي المكان الخطأ للقوم "الصح" فكرًا وفهمًا وقولًا وعملًا، قولاً واحدًا.

وتفرقنا ومضى كل منا إلى حال سبيله..

وهنا، أنتقل إلى قناعتي الشخصية أن رابعة، كفكرة، كان لا بد منها، لكن كمكان ففيه نظر كبير. لكن، في المجمل، هذه أيام مضت وما مضى لن يعود. أما ما بعد رابعة كمجزرة، فالأمر جد خطير، والكلام كثير جدًا.

لكني في هذا المقال سأركز على نقطة "رابعة" وتحولها من مكان للاعتراض على انقلاب عسكري اختطف الوطن، إلى "رابعة" التي حولها البعض إلى كربلائية بكاء ومظلومية فقط دون عمل حقيقي.

وأنا هنا أتحدث عن ثلاث سنوات مضت على هذه المجزرة التي استهدفت الوطن في خِيرة أبنائه وحولته إلى ركام من الدماء وانتهاك الحرمات والحريات.

تحولت "رابعة" عند البعض إلى كربلائية بكاء ومظلومية فقط دون عمل حقيقي

إن "رابعة" ستظل مجزرة القرن وسيظل الإسلاميون أكثر من قدم لهذا الوطن تضحيات شاء من شاء وأبى من أبى. لكن، حتى متى نظل نتحدث عن "رابعة" ونقيم الندوات والتأبين ونتذكر ونبكى ونتباكى ثم يسير الأمر إلى طبيعته وكأنه لحظات عبرة وعظة ؟!

إن "رابعة" ليست مظلومية بكاء بقدر ما هي مرحلة في تاريخ الثورات، لها ما بعدها بلا شك، أو هكذا كنا نظن ونتوقع على مدار السنين الماضية.

لكن وبمنتهى الوضوح، لقد حولت السياسات الخاطئة للإسلاميين، وخصوصًا الإخوان المسلمين "رابعة" إلى مناحة بلا عمل وذكرى للدماء والحزن دون أن يقدموا شيئًا للشهداء في قبورهم ولا لأهاليهم الثكالى تُشفى به الصدور وتقر العيون، أو على الأقل يضمنون به حياة كريمة.

كلنا مذنبون وكلنا أخطأنا في حق الشهداء وأهاليهم والمعتقلين وذويهم والمطاردين وأبنائهم، وما زال الخطأ قائمًا

وأنا هنا أعي جيدًا ما أقوله؛ فالوضع صعب جدًّا، ليس بفعل هذه المحنة؛ بل بسوء الإدارة، فكلنا مذنبون وكلنا أخطأنا في حق الشهداء وأهاليهم والمعتقلين وذويهم والمطاردين وأبنائهم، وما زال الخطأ قائمًا!

إن رابعة ستبقى تمثل حلقة في بناء وطن مسلوب، لكن وفي الوقت نفسه هناك مسؤولية مشتركة عن الدماء التي سالت والأرواح التي أُزهقت .

وأنا هنا لا أتحدث عن أسيادنا القادة في الزنازين وإن كان لهم نصيب من الأمر بحكم توليهم القيادة وتأثيرهم على الصف، ولا أتحدث عن الذين سبقونا على هذا الطريق وقضوا نحبهم، لكنني، وبلا أدنى تجمُّل أتحدث عن الكثير من القادة الذين أخطؤوا في تقييم الأمور حتى أصبحت دماؤنا كالسيل في "رابعة" و"طيبة مول" و"عباس العقاد".

والأخطر من ذلك، أنهم لم يقدموا بعد "رابعة" أي جديد، وتعددت المجازر لتصل إلى معظم المدن، وأصبحنا نلتقي في الأحزان يوميًّا، وكأن هذا من سنين! أما الآن، فلا يخفى على أحد الوضع، صارت التصفية شيئًا معتادًا، لم نعد نفزع من سماعه، ولا أدرى هل هذه رحمة من ربنا بنا أم ماذا؟! بل والطامة الكبرى، تحوُّل الخلاف إلى شقاق وتراشق؛ بل وصل للتخوين والمزايدات ولا حول وقوة إلا بالله.

الثورات لن تنتصر بالحناجر ولا بالمؤتمرات، لكن بالتغيير والرؤية الواضحة

إن دماء "رابعة" مع آلافٍ أخرى خانها الجميع، ما زالت تغلي ولا مجيب أو مخفف لها؛ إننا حولنا رابعة من ملحمة في بناء وطن إلى ذكرى للحزن نذكر فيها هؤلاء الكبار الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل رفعة هذا الوطن.

لكن مع الأسف، هذا لا يكفي؛ بل غير مقبول من الجميع، وخاصة ممن تصدروا ويتصدرون المشهد منذ سنوات مضت وما زالوا مصممين على أنهم هم الجماعة واللواء وحاملو الراية والكفاح والجهاد. ومع الأسف، الثورات لن تنتصر بالحناجر ولا بالمؤتمرات، لكن بالتغيير والرؤية الواضحة.

خلاصة الأمر، ليس ما سبق جلدًا للذات، فكيف أجلد ذاتي وروحي، ولكني أتحدث من باب "وذكِّر".

إن "رابعة" باقية في نفوسنا؛ بسموها وطهرها ورجالها ونسائها، نتذكرها ونشتاق إلى رحابها وجوها وعطرها الفوّاح. لكن وفي الوقت نفسه، يكون الوفاء للشهداء بترك منطقة المظلومية إلى منطقة العمل ؛ فالصف طال انتظاره لعمل يسعده ويريحه، ورؤية يفخر بها وتلاحم يشرف به، وراية واحدة وكلمة موحدة، لكن طال الانتظار فزاد الألم والحزن، وصارت مظلومية "رابعة" في القلوب والعقول حتى صار الجمود واضحًا إدارةً وأفرادًا، إلا من رحم ربى. ومن حاول كسر الجمود والعمل والنهوض يتم فصله أو الطعن فيه والتشكيك في قدراته؛ بل واتهامه بأنه خطف الجماعة والأمثلة كثيرة!

"رابعة" في القلب، لكن لا قيمة للقلب بلا عمل، ولا مكان للعقل بلا فكر؛ فالعمل بهمة عالية يضمد جراح الماضي ويقوي أفراد الواقع ويؤمن الكرامة للمستقبل هو الحل

والكل يعلم أن كتائب شهداء "رابعة" ودماءهم الزكية ما زالت تنادي وتصرخ: كفى نزاعًا؛ فحقي ضاع! كفى تشرذمًا وخلافًا وتخوينًا! كفى دموعًا علينا، فنحن بخير حال فرحين بنعم ربنا علينا، نتطلع إلى عمل ونهوض وبناء بفهم صحيح وعالٍ، وأهالي الشهداء والمعتقلين والمطاردين يسألون: أين الطريق؟ حتى متى؟! على ماذا تعوّلون؟!

ختامًا، "رابعة" في القلب، لكن لا قيمة للقلب بلا عمل، ولا مكان للعقل بلا فكر؛ فالعمل بهمة عالية وبناء يضمد جراح الماضي ويقوي أفراد الواقع ويؤمن الكرامة للمستقبل هو الحل، وإلا فستصل سنّة الاستبدال حتمًا للجميع رغم أنوفهم.

اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وباحث مصري الجنسية، مؤلف عدة كتب فى التربية والتنمية "خرابيش - تربويات غائبة- تنمويات". مهتم بقضية الوعي ونهضة الأمة من خلال التربية.

شاهد أيضاً

حذار من النزعة القارونية التي تحبط العمل!

يحمل كثيرون مقولة قارون {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 98] على ظاهرها فحسب، أي …