تواجه الحركة الإسلامية في الوقت الراهن، مجموعة من التحديات التي تنطلق في مختلف الاتجاهات، من بينها ما هو سياسي، وما هو تنظيمي، وما هو إعلامي.
ولعل في ذلك معالم صحة، وليس كما يتصور البعض؛ من أن ذلك يعني خفوت وأفول نجم المشروع السياسي الإسلامي، بأطيافه المختلفة، متى تم التعامل مع هذه التحديات.
بمعنى أن الفيصل المهم فيما بين أن تكون هذه التحديات ذات أثر سلبي أو إيجابي، هو كيفية تعامل القائد الحركي معها، وهل سوف يتفاعل معها بروح إيجابية، أم سوف تقعده وتعيقه.
وفي هذا الصدد؛ فإن لدينا مشكلة تربوية وأخلاقية، قبل أن تكون تنظيمية، يجب العمل على فحصها وإيجاد علاج لها، هي مشكلة #القدوة، وخصوصًا في الجانب المتعلق بالقيادة، ورؤية الصفِّ لها.
لدينا مشكلة تربوية وأخلاقية، قبل أن تكون تنظيمية، يجب العمل على فحصها وإيجاد علاج لها، هي مشكلة القدوة، وخصوصًا في الجانب المتعلق بالقيادة، ورؤية الصفِّ لها
ففي الفترة الأخيرة، عرفت بعض الحركات الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، الكثير من المشكلات في هذه النقطة، والتي تعود إلى بعض الأسباب المتعددة في طبيعتها، ولكن من بين أهمها، التشويش الإعلامي من جانب خصوم الحركة.
هذا عن العوامل الخارجية، أما الأهم، فهو ما جاء من الداخل، والذي هو بطبيعة الحال، أعمق أثرًا في النفوس، مثل بعض القرارات والسياسات التي تم اتخاذها من جانب أحزاب وجماعات محسوبة على المشروع الإسلامي الوسطي، وعلى الإخوان تحديدًا، مثل مواقف حركة "النهضة" في تونس، وبعض الأمور المتعلقة بقيادات الإخوان في مصر، من المتواجدين في الخارج.
وبرغم حرج وحساسية الحديث الصريح في هذه النقطة؛ إلا أنها ترتبط بمشكلتَيْن رئيسيتَيْن، الأولى، هو ائتمان الجماعة في فترة من الفترات، تحت وطأة زخم الحراك الشعبي في وقت الثورات العربية، مَن لا أمانة له من جيل جديد، إما كان منتفعًا وتسلل في ظل زحام الحشد، أو لم يتشبَّع بعد بتربويات الإخوان المعروفة القوية التي ترسخ مع الزمن في نفوس أعضاء الجماعة.
هؤلاء في إطار الأزمات والانشقاقات الحالية، مارسوا أبشع ألوان التضليل إزاء قيادات الحركة، بحيث خرج الأمر عن نطاق النقد المطلوب، والذي يهدف إلى الإصلاح، إلى مستوى الإساءة والهدم، وكان من نتاج ذلك، أن شاعت اتهامات في اتجاهَيْن أساسيَّيْن، الأولى التخوين، والثانية التربُّح من الدعوة، وعمل مصالح ذاتية من ورائها.
من المشاكل الظاهرة عدم الشفافية من جانب بعض الرموز الدعوية، بالإضافة إلى أن بعضهم ربما أصابه ما اصطلح في الأدبيات الحركية بـ "التعالي التنظيمي"
ساهم في دعم أثر ذلك على الصف والجمهور العام المتابع، المشكلة الثانية في هذا الصدد، وهي عدم #الشفافية والوضوح من جانب بعض الرموز، بالإضافة إلى أن بعضهم للأسف الشديد، ربما أصابه ما اصطلح في الأدبيات الحركية على تسميته بـ"الغرور الدعوي"، أو "التعالي التنظيمي"، بحيث غاب عنه أهمية التعامل الجاد والحاسم مع المحتوى الذي يتم تداوله في إطار المشكلة الأولى.
في هذا الصدد، يبدو الحل شديد الوضوح، وموجود في الأدبيات الأولى التي وضعها الأئمة الأوائل للحركة الإسلامية، وهو المنهج الذي استقوه في الأصل من السلف الصالح، عن النبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، ولاسيما فيما يتعلق بالشفافية والتجرُّد الذي ينبغي أن يكون عليه القائد المسلم.
ونبدأ في هذا الصدد بموقف من السيرة النبوية، هو أعظم ما يكون في مجال الشفافية، عندما خرج الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، على أصحابه، "رضوان اللهِ تعالى عليهم"، وكانت معه أمنا، أم المؤمنين، السيدة صفية "رضي اللهُ عنها"، وكانت ترتدي النقاب، ولا يُرى وجهها، فأشار النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" لها، وقال لهم إنها صفية، زوجته.
وعندما عاتبه الصحابة "رضوان اللهِ تعالى عليهم"، على ذلك، قال لهم الدرس الأهم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
وهو ما يعني أن يضع القائد الناجح هاتَيْن القاعدتَيْن نصب عينَيْه؛ الأولى هي الشفافية، والثانية هي أنه يجب أن يعلم أن الصف، مهما بلغ به تشرُّب المنهج التربوي؛ فإنه تبقى فيه نطفة من الشيطان الرجيم، يجب معها أن يراعي القائد ما في أنفسهم ما تبقى من هوىً.
وتزداد إلحاحية وضرورة هذه القاعدة في عصرنا الراهن، فهذا الحال كان على عهد النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وكان الصحابة "رضوان اللهِ تعالى عليهم" ممن تشبعوا بالتربية النبوية في محضنها الرئيسي.
أما في عصرنا؛ فإنه، ولشديد الأسف؛ فإن العوارض المرضية التي أصابت المجتمعات، انتقلت إلى داخل أوساط الحركة الإسلامية ذاتها .
وفي ظل ضغوط العمل الجماهيري بعد ثورات الربيع العربي، وضرورة سد فجوات الأداء البشري مع تزايد المهام المطلوبة؛ دخلت الدعوة الكثير من العناصر التي لم يكن لها أن تحمل شرف العمل الحركي، وكانت –كما ذكرنا– إما منتفعة أو غير جديرة بحمل الأمانة على المستوى الأخلاقي.
ويفرض مبدأ الشفافية، أن يكون القائد متجرِّدًا، أي أن تكون شفافيته حقيقية.
فلو لم يتجرَّد، وحقق مكاسب من أي نوع من وراء عمله الحركي والدعوي؛ فإن شفافيته سوف تجعل ذلك يبدو أمام الصف، وأمام الجمهور، وهو ما سوف يؤذي أهم ما يستند إليه القائد في تحقيق سيطرته على المجموع، وتوجيهه إلى ما فيه المصلحة العامة، وهي المصداقية.
فالقائد هو الشخص المتجرِّد للحق، الذي يصبر على الشهوات المعنوية قبل المادية، وعلى رأسها حب الشهرة والظهور .وفي تاريخنا الإسلامي، هناك أبطال ماتوا من دون أن يعرف أحدٌ مَن كانوا، بالرغم من أن بعضهم حرفيًّا، كان مفتاح فتح بلاد وأمصار كانت من أهم ما يمكن عبر التاريخ الإسلامي.
وهذا الأمر، هو أكبر ضمانة –كذلك– وهو الأهم للحصول على الوعد الإلهي بالنصر والتوفيق، من خلال التنزه عن المطامع الشخصية.
ولنا في رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، دائمًا القدوة الحسنة في ذلك وغيره، فمحمدٍ "صلَّى الله عليه وسلَّم"، لم يطلب من ربه سبحانه وتعالى، أن يفتح عليه أو على المسلمين، مُلْك كسرى، في حياته، وكان يملك ذلك.
وعندما مَنَّ اللهُ تعالى عليه بفتح مكة المكرمة، لم يبتنِ فيها قصرًا، ولا طلب لنفسه فيها مُلْكًا. كانت لديه خزائن الأنصار، وقال من قبل، في أهمية الزهد والتنزه عن الشهوات المادية: "حسْبُ ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه".
وجاء الخلفاء الراشدون المهديون من بعده، لكي يؤكدوا على مبادئ المدرسة النبوية في هذا الصدد.
لولا تجرُّد وتقشُّف عمر بن الخطاب، ما كان يمكنه أن يأمر عُمَّاله على الأمصار المفتوحة، بالأمانة في حمل غنائم الفتوحات إلى بيت مال المسلمين، أو أن يأمرهم بالعدل
فعلى سبيل المثال؛ لولا زهد وتجرُّد وتقشُّف عمر بن الخطاب "رضي اللهُ عنه"، ما كان يمكنه أن يأمر عُمَّاله على الأمصار المختلفة المفتوحة، بالأمانة في حمل غنائم الفتوحات إلى بيت مال المسلمين، أو أن يأمرهم بالعدل بين الأقوام الذين يحكمونهم، وبالتالي، ما استمرت دولة الإسلام الوليدة في النمو والتمدد.
بل كان من تجرُّد عمر وشفافيته، "رضي اللهُ عنه"، أنْ كان مسيحيو مصر يشكون له واليه على بلدهم، عمرو بن العاص "رضي اللهُ عنه" ، لأنهم كانوا يعلمون عنه عدله وتجرُّده بالمعنى السياسي قبل الإنساني.
بل كان عمر من تجرده، كثيرًا ما يحاسب نفسه بنفسه من دون أن يكون شاهدًا عليه أحدٌ إلا الله تعالى.
وفق هذه القواعد التربوية والحركية، في ثلاثة عقود؛ كانت دولة المسلمين قد نهضت وخرجت خارج نطاق شبه الجزيرة العربية، لكي تصبح القوة الأولى في العالم القديم، بعد أن هزمت مُلْك كسرى وملْك الروم، وحققت كل نبؤات الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، في فتح بلاد الشام والعراق وبلاد فارس ومصر، وتدين لها الدنيا بالكامل.
ونحن في هذه المرحلة، أحوَج ما نكون إلى استعادة هذا المنهج، وأن نطبقه على أنفسنا، قبل أن نطبقه على الصف، وأن يكون الهدي النبوي هو أساس حكمنا على مختلف الأمور، وحراكنا في مختلف المواقف.