وقفت أنظر لتلك الحدائق الغناء والواحات الخضراء والأشجار الباسقات كم تعب عليها أصحابها بل كم استغرقت من وقت وجهد حتى أينعت وآتت أكلها، وتملكتني الدهشة أكثر عندما رأيت أن ما استغرق نموه أعواماً بالإمكان خلال لحظة تحويله إلى عصف مأكول وحطام حتى يكاد يكون أثراً بعد عين، وهكذا قلوبنا وأرواحنا تقحط وتظلم بعد أن كنا قد بذلنا الجهد الجهيد في سبيل إشراقتها وحياتها ونبضها.
عوائلنا، أسرنا، شبابنا، بناتنا، بل أفكارنا وقلوبنا كل هؤلاء ممن يعقد عليهم الأمل في بناء ذاك المستقبل المنشود، ثغر نرابط عليه ونحرسه بالمهج والأنفس، ومنذ الصغر نرضع مع لبان أمهاتنا تلك القيم والمبادئ التي لا يكل الآباء والمربون عن غرسها في سويدائنا، وكأنها قرآن متلو أو نفس نأخذه مع كل عملية شهيق، هذا عيب وهذا حرام وهذا التصرف فيه مس لأعراض الناس وذاك الفعل لا يمت لأخلاقنا بصلة وذاك يعارض ديننا وعرفنا!
هذا جزء يسير من فسائل يحاول الآباء والمصلحون زرعها في حدائق قلوبنا وواحات أرواحنا ويصحب ذلك انتظار على أحر من الجمر أن يؤتي هذا الغرس فينا أكله، وعلى حين غرة وغفلة منا يأتي علينا ما هو أشد من وقع الحسام بل ونتائجه في الدمار والخراب ما يفوق الدمار الذي تخلفه آلة الحرب المجنونة الهوجاء، تأتي علينا وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي لتغزونا من حيث لا ندري فتقتحم علينا جلواتنا وخلواتنا وخصوصياتنا، فتحصد ما زُرع فينا أعواماً خلت وتمر بمبادئنا وقيمنا وأعرافنا فتذرها أدراج الرياح وبطرفة عين تتحول أعوام الزرع والسقيا إلى سنوات عجاف.
بتنا نفتقد تلك الأيام التي كان إذا طرق الباب طارق أو سُمع رنين الهاتف لا يجيب على هذا أو ذاك إلا رجل في البيت موجود ، أن تنظر خلسة بطرف عينك لامرأة أجنبية عنك جرم يمس كل القيم والمبادئ والدين والأعراف، واليوم تعرض علينا وسائل الإعلام وشبكات التواصل ما لا يخطر على قلب حر أو فكر شريف، غزت هذه الشبكات بيوتنا وأكثر من ذلك غرف نومنا ودورات المياه في بيوتنا فتعرض عليك ابتداءً ما لا يخطر على بالك فأنت غني عن التسكع في الشوارع والمقاهي؛ لأن ما هو أكثر تستطيع رؤيته وأنت في عقر بيتك، وتعرض علينا هذه الشبكات والوسائل كل ما يخالف العرف والدين فعلاقة الفتاة بالشاب صداقة بريئة ودعوات لضرورة التعرف بشريك الحياة قبل الارتباط به رسمياً ولا يضر إن كانت المدة سنة أو سنوات.تأتي علينا وسائل الإعلام وشبكات التواصل لتغزونا، فتقتحم علينا جلواتنا وخصوصياتنا، فتحصد ما زُرع فينا أعواماً خلت وتمر بمبادئنا وقيمنا وأعرافنا فتذرها أدراج الرياح
كل ما يبث على مسامعنا وأبصارنا وأفكارنا يعارض جملة وتفصيلاً ما تزرعه في فكر ابنك أو ابنتك أعواماً فيأتي ما يغسل عقولهم وأفكارهم بكبسة زر، فخرج لنا جيل المستقبل المنشود جيلاً يتخبط في المتناقضات، إمعة لا كيان ولا شخصية له، تماماً كما الريشة في مهب الريح.
أما آن لنا أن ندرك أنّ هذا الكم الهائل من برامج على مختلف أشكالها سواء كانت برامج فكرية أو ترفيهية كمسابقات الغناء وتلك المسلسلات على تنوعها هندية وتركية هدفها محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة
أما آن لنا أن ندرك أنّ هذا الكم الهائل والزخم المبالغ فيه من برامج على مختلف أشكالها وألوانها سواء كانت برامج فكرية أو ترفيهية كمسابقات الغناء وتلك المسلسلات على تنوعها هندية وتركية هدفها محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة، وقتل ما تبقى فينا من نخوة، فتشوه الحب والمودة وتزيّن الخيانة تحت مسمى صداقة بريئة أو تعارف أو تحت ما شئت أن تطلق عليها من المسميات!
أما آن لنا أن ندرك أنها خطط مبرمجة لتعيث فساداً في ربيع قلوبنا وأرواحنا وتلويث أفكارنا لا سيما في الوقت الذي تدنس به مقدساتنا وتسفك دماء الطهر والبراءة في بلادنا وتنتهك أعراضنا وتُحتل ديارنا، أما آن لنا أن نعلم أن دفع هذه الوسائل ومجاهدتها من أعلى مراتب الجهاد ؟!
أن تتميز في مجتمع وتسمو في وقت يتساقط فيه الآخرون إنما هذا شرف وفضل اختصك الله به عمن سواك، لكن حذارِ أن تكتفي بصلاح نفسك وتعرض عمن حولك فعليك أن تجهد أن تكون من المصلحين، إذ أي نفع تجنيه إن غرقت السفينة التي أنت على متنها ؟! فلا بد من معالجة أساس خرق السفينة حتى تكتمل عناصر مهمتك من هذا الوجود، تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" (رواه البخاري).
أن تتميز في مجتمع وتسمو في وقت يتساقط فيه الآخرون إنما هذا شرف اختصك الله به، لكن حذارِ أن تكتفي بصلاح نفسك وتعرض عمن حولك فعليك أن تجهد أن تكون من المصلحين
ثم كيف نكون خير أمّة أخرجت للناس إن كنا لا نبالي بمن حولنا واكتفينا بإصلاح أنفسنا وحسب ؟! ألم يقل جل شأنه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: 110].
فعلى كل واحد منا تقع مسؤولية عظيمة وكل فرد في هذه الأمة عليه أن يعلم علم اليقين بأنه على ثغرة من ثغر الإسلام فليحذر أن يؤتى من قبله، وليكن حارساً أميناً لا تغفل له عين، ولنكن طوق النجاة لأولئك الغارقين، فندفع إعلامهم الهادم بإعلام بنّاء هادف ولنقابل عوامل هدمهم بصفوف مرصوصة تعجز أسلحتهم عن اختراقها، ولنجتث حشائش خبثهم ومكرهم بأشجار أصلها ثابت وفرعها في السماء ولا يكون ذلك إلا انطلاقاً وعملاً بالقاعدة التي وضعها رب الناس إذ يقول عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].