يقول الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": "لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا" [أخرجه الترمذي].
ولقد خلق الله تعالى الإنسان، وكرَّمه. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [سُورة "الإسراء" - الآية 70]، ومن تمام كرامة الإنسان، أن يحفظ على نفسه عقله، وليس هناك انتهاك لعقل الإنسان وقيمته، والذي هو مِن أهم مظاهر تكريم الخالق عز وجل للإنسان؛ من أن يدور الإنسان هنا وهناك، يسمع ويحدِّث، ويتبع هذا بغير علم وفهم، حتى ولو كان في ذلك تهلكته.
هذا السلوك من الإنسان ينزل به إلى درك البهيمية، ويجعله تابعًا، مثل الأنعام، وهو ما يتناقض مع تكليف الإنسان بالأمانة العظمى، وهي القيام بعقيدة التوحيد، وأخْذُها بحقها؛ حيث العقل والحرية هما مناطا التكليف، وهذا السلوك من الإنسان، يلغي عقله، ويجعله أسيرًا لآخرين.
وهو سلوك ذمَّ فيه القرآن الكريم، واستخدم فيه رب العزة سبحانه، ذات هذا الوصف؛ الدواب والأنعام، وقال إن هؤلاء يعرضون أنفسهم لخطر الضلال، إذا ما كان من يتبعونهم، ضالون مضِلُّون، وبالتالي؛ سيكون جزاؤهم الندامة والعذاب في الآخرة.
فيقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سُورة "الأعراف" - الآية 179]، ويقول أيضًا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [سُورة "الفرقان" الآية 44].
والآيات هنا واضحة تمامًا؛ فهؤلاء هم من يلغون عقولهم، ويحيدون حواسهم.
ويقول رب العزة سبحانه كذلك في وصف الاتِّباع والإمَّعة بغير عقل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [سُورة "النحل" - الآية 76].
أما الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، : "كفى بالمرء إثماً أن يُحدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ" [أخرجه أبو داود والحاكم]، ويقول كذلك: "لتَتَبعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٍّ لسلكتموه". قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فَمَنْ؟" [أخرجه البخاري].
وفي وقتنا الراهن، يعاني الشباب المسلم، بما في ذلك بعض طليعته الحركية، من آفة شديدة السلبية، وهي الاتباع بغير علم، أو إعمال للعقل، وهو أمر بالإضافة إلى أنه مخالف للفطرة؛ فهو مخالف للشريعة، التي أمرتنا بإعمال العقل والفكر، حتى في الأمور العقيدية وكافة شؤون الدين، وهو بديهي؛ لأن الإسلام ببساطة، هو دين الفطرة.
الأولى من الاتباع والانكباب على آخرين، أن تقرأ، وتعوِّد نفسك على الاستماع، وأن تعطِ نفسك مساحة للتأمل؛ حتى ولو كان وسط الزحام
فالأولى من الاتباع والانكباب على آخرين، أن تقرأ، وتعوِّد نفسك على الاستماع، وأن تعطِ نفسك مساحة للتأمل؛ حتى ولو كان وسط الزحام.
بمعنىً آخر، أن يكون الإنسان حرًّا، وأن يعيش عقله كما أعطاه له الله تعالى.
ومن بين أهم فوائد التأمل؛ هو أن الإنسان يكون بصيرًا بمستقبله، وذلك من خلال قراءة أحوال ونماذج البشر أمامه ، ممن سبقوه في درب أو مسار اجتماعي أو مهني معين، بحكم تقدمهم عنه في السن، بينما هو لا يزال على اعتابه.
وقتها لو أفسح لنفسه المجال لعقله وقدرته على التمييز، بدلاً من اتباع نموذج بعينه؛ فإن الإنسان في حينه سوف يكون قادرًا على التمييز بين القرارات الخاطئة، والقرارات السليمة، وما يجب عليه أن يأخذه من قرارات في موضع كذا، وما يجب عليه أن يمتنع عنه.
دراسة الواقع، هي مِن خير الأمور التي تساعد الإنسان على تحديد خياراته بدقة، فبجانب الاستفادة من تجارب الآخرين؛ فإن دراسة الواقع تسمح للإنسان برؤية البدائل المتاحة أمامه
فدراسة الواقع، هي مِن خير الأمور التي تساعد الإنسان على تحديد خياراته بدقة، فبجانب الاستفادة من تجارب الآخرين؛ فإن دراسة الواقع تسمح للإنسان برؤية البدائل المتاحة أمامه، وما هي أفضل المجالات التي يمكن له أن يدرس فيها، أو يعمل فيها، شرط أن يكون واقعيًّا في معرفة حقيقة قدراته، وكيف يعمل على تطويرها.
التنمية البشرية ليست تجارة
يفتح هذا المجال من الحديث، عن نقطة شديدة الأهمية تتعلق بإهدار موارد الكثير من الشباب في وقتنا الراهن، سواء مورد الوقت أو مورد المال، والوقت أهم من المال؛ فعلى الأقل المال يمكن تعويضه، بينما الوقت مثل الروح؛ متى ذهب لا يمكن أن يعيده سوى خالقه ، وخالقه أوحى لعبده ونبيه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، في الحديث القدسي، بأن اليوم الذي يمضي لا يعود أبدًا إلى يوم القيامة.
تتعلق هذه النقطة بانتشار "تجارة" ما يعرف بدورات التنمية البشرية، التي لا تقدم –في الأغلب- الكثير للإنسان، في ظل كونها مبنية على أصول غير علمية، وقيام الكثير من غير المتخصصين بتصدر المشهد في هذا المجال، في كثير من الأحيان.
فبجانب عدم مهنية أو احترافية البرامج المقدمة، وأنها تحولت إلى مجرد وسيلة لكسب العيش؛ فإن هذه البرامج في الغالب ما تكون مسروقة من أكاديميات ومراكز غربية على وجه الخصوص، وتكون مصمَّمة وفق البيئة التي وضِعَتْ فيها، ولها، وبالتالي؛ فهي لا تناسب، حتى في النماذج المختارة لأمثلة فيها، للمجتمعات العربية والإسلامية المختلفة تمامًا في هويتها عن المجتمعات الغربية التي وضعت لها هذه البرامج.
فبعض هذه البرامج، يتحدث عن زميلات العمل، وكيفية توطيد العلاقة بينهن وبين زملائهن، ويشمل ذلك مخالفات شرعية عدة، أو الحديث عن بيئة نجاح الشركات وفق معطيات لا توجد ببساطة في مجتمعاتنا العربية.
بل إن بعض هذه البرامج تركز على مجالات لا توجد أصلاً في مجتمعاتنا!
وهناك دورة طريفة للغاية انتشرت لفترة طويلة في القاهرة، وكانت عن نجاح بعض الشباب الغربي من خلال مبادرات ذاتية لشباب الأعمال، وكانت النماذج التي يتم تدريسها، عن كيفية نجاحك في صناعة مكونات الحاسبات الآلية في المنزل!!.. بطبيعة الحال هذا ممكن في الغرب، ولكن في عالمنا العربي؛ تعجز شركات كبرى عنه؛ فما بالنا بشباب في منزله؟!
والمؤسف أن العديد من الشباب يهدرون وقتهم وطاقاتهم ومالهم، في الكثير من الغثِّ في هذا المجال، ويعود ذلك إلى "فيليا الشهرة"؛ حيث ينجذبون إلى الأسماء البراقة اللامعة في هذا المجال، من دون التفكُّر في مسألة الاختلاف بين مجتمع ومجتمع فيما يدعون إليه من مناهج، وأن نجاح بعضهم في الغرب، لا يعني أن ما يقولونه سيساعد على النجاح في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
نجاحك الحقيقي هو أن تكون نفسك؛ لا أن تكون غيرك، ولا أن تتبع غيرك من دون تعقُّل، أو دراسة كافية
وبجانب "فيليا الشهرة"؛ نجد أن قضية الإمَّعة أو الاتباع بغير عقل، فمنهم من يذهب لمجرد أنه رأى أصدقاءه قد فعلوا ذلك، ومنهم من يذهب لأن غيره قد حقق نجاحًا من خلال مثل هذه الدورات، من دون التفكير في نسبية الأمور، وأن ما يصلح لغيره؛ قد لا يصلح له بسبب اختلاف الظروف والقدرات المالية والاجتماعية المحيطة.
وفي الاخير؛ يبقى التأكيد على أن نجاحك الحقيقي هو أن تكون نفسك؛ لا أن تكون غيرك، ولا أن تتبع غيرك من دون تعقُّل، أو دراسة كافية، وتذكر: الشهرة ليست معيار نجاح؛ فغيرك ليس ناجحًا لمجرد أنه أصبح شهيرًا، وأنت لن تكون ناجحًا لمجرد أن تكون مشهورًا.
النجاح الحقيقي في أن تكون ذاتك، وأن تخدم مجتمعك ودينك، وأن تكون نافعًا للناس . فخير الناس أنفعهم للناس، كما قال الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".