كم يحوي عالمنا من صور مزيفة غير حقيقية، تظهر بعض الأشخاص وكأنهم أنبياء، وتبرز فيهم مظاهر الحكمة والثقافة والعلم. ثم إذا نظرت للواقع الذي يعيشه هؤلاء، صدمت من المستوى المتناقض مع ما تصورته عنهم في السابق.
نعيش كل يوم حالة من التناقض والانفصام، خصوصاً في الأعوام الأخيرة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ، حيث يحرص البعض على إظهار أجود ما لديهم، من علم وأدب ودين.ترى أحدهم يزين صفحاته بالآيات والأحاديث والحكم، والأقوال المأثورة للسلف وأهل العلم، ثم لا يعلم أين طريق المسجد، أو تجده يظلم أهله، أو يعق والديه، أو على خصومة مع أخيه!
وترى صفحته على وسائل التواصل تزخر بالنصائح والحكم التربوية، ثم حينما تطلع على نتاج تربيته لأبنائه، تصاب بحالة من الانفصام والصدمة!
وترى البعض يرفعون شعارات برّاقة، ويجاهرون بانتمائهم لهذه الدعوة أو تلك، ثم لا تراهم يمتون لها بأية صلة، فهم بعيدون عنها انتماء وفكراً وسلوكاً!
وكذلك الحال في ظل انتشار "موضة" القراءة وحب الاطلاع، تجد أحدهم يأخذ "سيلفي" مع هذا الكتاب أو ذاك، ثم حينما تجلس معه لا يتذكر من الكتاب إلا اسمه، إن لم يناقض ما جاء فيه من أفكار عامة.
على رسلكم يا قوم.. ما هكذا تورد الإبل، وما هكذا يكون التصوير الحقيقي لأشخاصنا وذواتنا!
حينما يتصفح أي منا وسائل التواصل يستغرب بعد أن يستعرض العالم المثالي الموجود، ويتساءل كيف ترتكب الجرائم وتسلب الحقوق، ويظلم الآخرون؟ أليس أولئك "المثاليون" على وسائل التواصل هم أنفسهم الذين يقطنون على هذا الكوكب
حينما يتصفح أي منا وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك مثلاً، يستغرب بعد أن يستعرض العالم المثالي الموجود، ويتساءل كيف ترتكب الجرائم وتسلب الحقوق، ويظلم الآخرون؟ أليس أولئك "المثاليون" على وسائل التواصل هم أنفسهم الذين يقطنون على هذا الكوكب ويرتكبون الأخطاء التي تكون صادمة في كثير منها!
ما بال أقوام غرّوا الآخرين بذلك، وصوروا لهم صوراً مزيفة، فوثق الآخرون بهم، وقدموهم وجعلوهم يتصدرون المجالس، أو اشتركوا معهم في أمور مادية، أو زوجوهم أو تزوجوا منهم، ثم صدموا بواقع مغاير مختلف متناقض!
إنه العالم المزيّف، الذي جعل المظاهر تطغى على الحقائق، والذي جعل المهمة صعبة في كشف معادن الناس وجوهرهم، حيث لا يمكن كشفهم إلا من خلال الاختلاط والتعايش الحقيقي لا شيء غيره.
حتى على مستوى الحياة الأسرية، تجد حالة من الانفصام يعرفها أهل البيت أنفسهم، بين تغزل وحب ظاهري، تتخيل أنها أسعد أسرة في العالم، وبين جحيم وحرب ضروس واستبداد ظالم خلف الأبواب والجدران!
عزيزي القارئ.. إن كان ما تظهره على صفحاتك موافق لما تقوم به، فأنت على طريق سوي مستقيم ، ولست معنياً بمن أقصد، لكنك تتفق معي أن هذه باتت ظاهرة، وحالة النفاق والخداع على وسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً، جعلت البعض ينفرون منها، حينما يعلمون حقيقة أولئك الأشخاص وواقعهم وتجاربهم.
ولا يفهم من كلامي أنني أدعو لإظهار كل سلبياتنا على وسائل التواصل، فوالله ما هذا إلا انعدام للحياء، ومجاهرة بالمعاصي والخطايا، وكل الأمة معافى إلا المجاهرين، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري.
إن ما أدعو إليه أن لا نرفع من الشعارات إلا ما يمكننا تطبيقها، وأن لا يعتبر المرء ما يكتبه على وسائل التواصل كافياً ومكفراً للذنوب وسوء التصرف والتقصير وظلم الآخرين
إن ما أدعو إليه أن لا نرفع من الشعارات إلا ما يمكننا تطبيقها، وأن لا يعتبر المرء ما يكتبه على وسائل التواصل كافياً ومكفراً للذنوب وسوء التصرف والتقصير وظلم الآخرين، وأن لا يعيش الناس في حالة من الانفصام أو "الشيزوفرينيا" بين القول والفعل والسلوك.
ليست هناك مصلحة في أن أكذب على الناس في أمر لم أقم به، أو أختلق أحداثاً غير موجودة، أو أعيش في عالم وهمي وأفترض شخصيات غير موجودة وأوجه لها النصحية، تماماً كمن يوجه النصيحة لابنه الذي لم يأت، لأن الكاتب لم يتزوج بعد!
إن الأصل أن يكون ما نكتبه دافعاً لنا لنحسن من سلوكنا، ونراجع ونحاسب أنفسنا، ونقوّم تصرفاتنا وتعاملنا مع الآخرين ، ومن الجميل أن تكون طموحاً تسعى في كل يوم للتطور والتحسن، لكن لا تكتب عن بر الوالدين وحبهما وهم يبكون من سوء تصرفك وأخلاقك، أو تكتب عن الأخوة وأنت مقاطع لهم، وغير ذلك.يقول أبو الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجل الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ *** هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى *** كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا *** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى *** بِالْقَوْلِ مِنْك وَيحصل التسليمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
إن من الأمور التي يمقتها الله تعالى، أن تنافي أقوالنا أفعالنا، وأن نعيش في حالة من التناقض بينهما، وقد قال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2،3].
وقد نزلت الآيتان السابقتان في بعض المؤمنين الذين كانوا يبحثون عن أحب الأعمال إلى الله، فلما علموا أن أحبها إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته، كرهوا ذلك "الجهاد" وشق عليهم، كما قال ابن عباس.
وعلى هذه الآية يعلق الشيخ السعدي في تفسيره، فيقول: (لم تقولون الخير وتحثون عليه وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه وأنتم متلوثون متصفون به).
أيها الإنسان: لا تظن أن كلماتك البعيدة عن السلوك ستستر عيوبك التي ستنكشف عندما تختلط مع الآخرين. بل حاول أن تصحح تصرفاتك، ليوافق عملك قولك، وتعيش في راحة نفسية بعيداً عن النفاق
أيها الإنسان: لا تظن أن كلماتك الخاوية والبعيدة عن السلوك ستستر عيوبك التي ستنكشف عندما تختلط مع الآخرين. بل حاول أن تصحح تصرفاتك، ليوافق عملك قولك، وتعيش في راحة نفسية بعيداً عن الضيق والنفاق وإخفاء السلبيات والعيوب.
وكم أستحضر في ذهني قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي، حينما أراد أن يعلمه بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له كلمة تكتب بماء الذهب، ومما جاء فيها: (حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه..) فلاحظ كيف كانت معرفتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، سبباً لتصديقه والإيمان بدعوته، واتباع دينه والوثوق به.
وهذا عمر رضي الله عنه يطبق قواعد الفهم الصحيح للناس، فروى ابن أبي الدنيا: أنه رضي الله عنه رأى رجلا يثني على رجل فقال: أسافرت معه؟ قال: لا. قال: أخالطته؟ قال: لا. قال: والله الذي لا إله إلا هو ما تعرفه .
وروى الدينوري أن رجلاً قال لعمر رضي الله عنه، إنّ فلاناً رجل صدق. فقال له: هل سافرت معه؟ قال: لا. قال: فهل كانت بينك وبينه معاملة؟ قال: لا. قال: فهل ائتمنتَه على شيء؟ قال: لا. قال: فأنت الذي لا علم لك به، أُراك رأيتَه يرفع رأسه ويخفضه في المسجد".
أسأل الله تعالى أن نكون ممن يوافق قولهم فعلهم، إنه سميع مجيب.