كنا صغاراً وهم يتلون على مسامعنا: بلاد العُرب أوطاني، وكبرنا لنجد أنّ بلاد العُرب أكفان ومقابر وسجون لكل أحلامنا وآمالنا!
كانوا يترنمون بها وقد خلت قلوبهم من معانيها، رسخوا في أفهامنا صغاراً كل معاني التجزئة والتفرقة مع أنهم كانوا يجمعوننا على مائدة تدعى حب الأوطان، فحتى حبنا صبغوه بصبغة غربية استعمارية، بلاد العُرب التي من المفروض أن تكون كما الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء، لكنهم قطعوا أوصال الجسد الواحد فلا يشتكي سائره ولا حتى بعضه.
وطن من أكثر المصطلحات التي باتت تستفزني في هذا الوجود؛ فهل الوطن هو تلك الحدود الجغرافية التي يستوقفني أحدهم على بوابتها دخولاً وخروجاً لأبرز له وثيقة رسمت حدودها إثماً وبهتاناً ؟! وكأنه سجن كبير يحيط بأحلامنا وآمالنا كما يحيط بأجسادنا!
هل هذا الوطن الذي كان من المفروض أن يجمعنا إخواناً ويوحد بين قلوبنا أحباباً؟! لقد بات يفرقنا ويجعل منا شيعاً وأحزاباً بل وأعداءً نتنافس على نهب خيراته لا على دحض أعدائه، لأنّ ما بني على باطل لا يثمر إلا باطلاً ومن يزرع الشوك أنّى له أن يجني شهداً؟!
حب الأوطان فطري أصيل في قرارة النفس وسويداء القلب لكن البعض اتخذوا بهذا التغني مطية ليزرعوا فينا كل معاني التفرقة والتناحر
وحب الأوطان فطري أصيل في قرارة النفس وسويداء القلب لكن البعض اتخذوا بهذا التغني مطية ليزرعوا فينا كل معاني التفرقة والتناحر.
وقفت أنظر لماذا بعد كل هذه العقود من الدماء والأشلاء والدمار لم تثمر أي دعوة لتوحيد القلوب وجمع الشتات ولملمة الأجزاء، لماذا كل هذه الدماء التي تسفك لم تزد بيننا إلا تباعداً وتناحراً؟! لأن غالب الدعوات يا سادة سراب يحسبه الظمآن ماء، رفعوا من الشعارات ما يناقض أهدافهم فكانت سرائرهم تخالف ظواهرهم وعلانيتهم.
وبعد كل هذا تستوقفني الأزمات والجراحات السابقة واللاحقة لأقف على صفحة من صفحات تاريخنا المشرق الخالد لأستلهم من المحمدية الرسالة والرسول _الغرة البيضاء في ناصية الأمم_ التي استطاعت من قبل أن ترفع الشعارات أن ترسم واقعاً بالقلوب قبل الأجساد فلا يصدر منها إلا الحق في القول والعمل وحتى في مشاعر القلب وخفقانه، فكانت هجرة النبي المصطفى وانسلاخه من بني جلدته وقد فارق مسقط رأسه ومحضن شبابه وربوع طفولته ليعلو بالرسالة التي يحمل ويصدع بالحق الذي جاء به يرسم لنا حدود الوطن ويضرب أروع الأمثلة لنا بحبه، فكان هذا من أعظم الدروس التي حري بنا أن نتدارسها وندرسها في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا بدلاً من تلك العنصرية والقومية المقيتة التي صدعوا رؤوسنا بها وباتت شكلاً من أشكال الجاهلية ولكن بحلة جديدة وعصرية تناسب تحضرنا وتقدمنا فما جلبت لنا غير الويلات والنكسات بل والهزائم تلو الهزائم.
إن الوطن الجغرافي الذي قابل الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل، وواجه إشراقه وفجر رسالته بظلام الجاهلية الدامس، فرض عليه أن يبحث عن مسقط رأس جديد للنور الذي يحمل فيترعرع في أحضان وطن يقدر أنّ ثمة شيء أجل وأعظم يجب أن يجمعنا، يفوق عزة وقوة ومتانة تلك الحدود الجغرافية التي باتت أوهن من خيوط بيت العنكبوت.
ليست الحدود من يوحد قلوبكم ويجمع شملكم بل تتبعوا خطوات نبيكم وتمسكوا بأصول رسالتكم فهي جذوة النور التي ستشرق على أرواحكم وقلوبكم ومنها تنطلقون لجمع أجزائكم والعلو بأوطانكم
فآوته يثرب واستقر النور الذي يحمل قلوب أهلها فاستطاع بذلك أن يوحد بين أطراف متناحرة ما استطاعت الحدود الجغرافية من أن تجمع كلمتهم وتوحد بين قلوبهم رغم السنوات الغابرة، واحتضنت العقيدة الجديدة جنسيات وألوان وألسن فوحدت وآخت بين الفارسي والرومي والحبشي والعربي ليصحح لنا الحبيب المصطفى مفهوم الوطن فيقول: "سلمان منا أهل البيت" ، وكأنّ لسان الهجرة النبوية تستنهض ضمائرنا وما بقي من حياة في قلوبنا لتقول لنا: أيها الناس ليست الحدود من يوحد قلوبكم ويجمع شملكم بل تتبعوا خطوات نبيكم وتمسكوا بأصول رسالتكم فهي جذوة النور التي ستشرق على أرواحكم وقلوبكم ومنها تنطلقون لجمع أجزائكم والعلو بأوطانكم والعودة إلى ربوعها.
وتستمر الإشراقات النبوية والدروس المحمدية لترسيخ مفهوم الوحدة في نفوسنا وقلوبنا ويعيد بمفهومه الحق رسم معالم الوطن في أفهامنا فليس عبثاً أن يربط عليه الصلاة والسلام بين البقاع الثلاثة _مكة والمدينة والقدس _ برباط قدسي لا يُمس فينشأ من خلال هذا الربط في وجدان كل مسلم يسكن أنحاء هذا الكون الفسيح من أقصى شرقه لأقصى غربه ومن شماله لجنوبه ذاك الالتزام الرباني نحو أخيه المسلم حيثما كان وأينما وجد فوق أي بقعة جغرافية أرادت الجاهلية العصرية والعقلية الاستعمارية أن تفرضها علينا.
أي شعارات ودعوات لا تتفق مع القاعدة الربانية والمبدأ السماوي الحنيف:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} وأي كان أصحابها ورافعوها، السقوط أجدر بها وسيذكرها التاريخ من باب أخذ العبر والمواعظ كما ذكرت أقوام خلت
وقتها فقط نعود لتلك الأوطان التي ترعرعنا في ربوعها ونشأنا بين أحضانها، ونستطيع أن نوحد بين ما فرقت بينه الحدود ونعود كما قال المعلم الهادي: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى" (رواه مسلم). وأي شعارات ودعوات لا تتفق مع القاعدة الربانية والمبدأ السماوي الحنيف:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} وأي كان أصحابها ورافعوها، السقوط أجدر بها وسيذكرها التاريخ من باب أخذ العبر والمواعظ كما ذكرت أقوام خلت.