إن المتتبع للنص القرآني في بنائه لقصص #الأنبياء يلمح بشكل واضح وجلي بعض الصفات التي اختصت ببعض الأنبياء دون بعض أو ربما دون باقي البشر، ولعل كل نبي برز بصفة معينة جعلت تلك الصفة هي السمة المميزة لهذا النبي، وإن أكثر الأنبياء جمعاً لهذه الصفات كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث أكثر #القرآن من الثناء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبأكثر من صفة؛ ويكفي في ذلك قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
فمثلاً أخبرنا القرآن عن أيوب أنه {كان صابراً نعم العبد إنه أواب}
وفي إٍسماعيل: {إنه كان صادق الوعد}
وعن موسى: { إنه كان مخلصاً}
وعن إسحاق: {وبشروه بغلام عليم}
وفي سليمان وداوود: {نعم العبد إنه أواب}
كما أخبر عن يوسف أنه حفيظ عليم والمسيح مبارك حيث ما كان.
إلا أن هناك من الصفات ما تستشفه أنت من خلال تفكرك بآيات الله وربط القصص بعضها ببعض وتخيُل المشاهد القرآنية وما وراء النصوص لتخلص إلى تكوين شخصية النبي في ذهنك من خلال ما عرفت عنه من الآيات المحكمات في كتاب الله عز وجل.
ولعل من أبرز الأنبياء ومن أكثرهم ذكراً في القرآن نبي الله إبراهيم –خليل الله- عليه السلام؛ هذا النبي الذي جعل جُلُّ دعوته بالمنطق وإقامة الحجة والبرهان، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
تميز أسلوب نبي الله إبراهيم في حواره مع المخالفين بأساليب مختلفة وبتنويع جميل ينبئ عن فطنة وذكاء عنده عليه السلام، وكأنه يخاطب كل إنسان بأسلوب كفيل بإقناعه
ولقد تميز أسلوب نبي الله إبراهيم في حواره مع المخالفين بأساليب مختلفة وبتنويع جميل ينبئ عن فطنة وذكاء حاد ومتقد عنده عليه السلام، وكأنه يخاطب كل إنسان بأسلوب كفيل بإقناعه.
وسيدنا إبراهيم إذ كان أحياناً يتسلسل في #الحوار: ففي تفسير سورة هود يذكر الطبري عن ابن إسحاق قال: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى} يعني إبراهيم جادل عن قوم لوط ليرد عنهم العذاب قال: فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين جادلهم في قوم لوط ليرد عنهم العذاب، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به: أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا: لا، قال: أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا: لا، قال: أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا: لا، قال: أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا: لا، قال: أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا: لا، قال: أفرأيتم إن كان رجلا واحدا مسلما؟ قالوا: لا، قال: فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحداً؛ قال إن فيها لوطا؛ يدفع به عنهم العذاب، قالوا: {نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} سورة العنكبوت:32، قالوا: {يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}.
وأحيانا يحسم بشكل قاطع لا فرصة فيه للتملص أو المواربة: ففي قصة محاورته الملك الكافر حين أخبره أن الله يحيي ويميت، فتذاكى ذلك الملك قائلاً: أنا أحيي وأميت، فجاء الرد القاطع والطلب الذي لا فرار من الانهزام أمامه: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب}، فكانت الضربة القاضية ليتم الحكم عليه: {فبهت الذي كفر} ومعنى بهت: غُلِب وتحيّر واندهش وانقطعت حُجّته.
وأحيانا يقيم البرهان بالتجربة: وتجلى ذلك واضحاً حين قدومه على قوم يعبدون النجوم؛ فارتأى عليه السلام أن يقنع الناس بأن الإله لم يكن ليغيب عن الناس، ولم يكن ليكون إلهاً وهو جرم أصغر من أجرام أخرى.
وأحيانا يجعل الكافرين في حرج ويضعهم في مأزق: وتبين ذلك مع قومه حين حطم أصنامهم وعلق الفأس على كتف كبير الأصنام، ثم أمر القوم أن يسألوا هذه الحجارة عمن فعل ذلك بها، ليخبرنا الله عز وجل عن صعوبة موقفهم: {فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُون، ثمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ}.
وأحيانا يستخدم سلاح عدوه بيده: كما أخبر قومه في القصة السابقة قبل أن يخرجوا لاحتفالهم: {فنظر نظرة في النجوم، فقال إني سقيم}، يقول الطبري: في تفسيره: "وقوله {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إنّي سَقِيمٌ} ذكر أن قومه كانوا أهل تنجيم، فرأى نجماً قد طلع، فعصب رأسه وقال: إنـي مَطْعُون، وكان قومه يهربُون من الطاعون، فأراد أن يتركوه في بيت آلهتهم، ويخرجوا عنه، ليخالفهم إليها فيكسرها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل".
وأحيانا يحاور بالدليل المنطقي المقنع: أي أنه يحاور بالدليل الذي يصح عقلاً ومنطقاً ولا يمكن لمن قابله أن يُخَطِّئَه، ونجد ذلك واضحاً في محاورته لأبيه:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}.
ومن أعظم الحوار الذي ورد في القرآن الكريم حين دعا الله عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى، فهدف إبراهيم عليه السلام أن يصل إلى لب الحقيقة، أي أن يعيشها، وكما ذكر الطنطاوي أن هناك فرقاً بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، فإبراهيم عليه السلام يعلم علم اليقين أن الله يحيي الموتى، لكنه لم يصل لمرحلة عين اليقين، لأنها تقتضي المشاهدة والرؤية المباشرة لذا قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، أي لتعيش جوارحه تلك المعجزة فيبلغ عين اليقين، وكذلك حق اليقين الذي يكون حين يقع الشيء على النفس، فلما يموت الإنسان ويبعث فإنه يصل لمرحلة حق اليقين من حيث درجة إيمانه بالموت والبعث.
وهنا مما يجب ذكره والشعور فيه، وهو وأنت تتلو آيات الله تتحدث عن أي حوار لإبراهيم عليه السلام تشعر بالهدوء يتسلل إليك، وكأن إبراهيم عليه السلام يقف أمامك ويتكلم بأدب جم وصوت منخفض هادئ لطيف، يشعرك بدفء من نوع ما، فقد كان حواره يتسم بالهدوء وعدم الغضب أو الصراخ، فهو الممتلئ حكمة والواثق بحجته المشفق على من هو مقابله، وتصور معي هذا الشعور وأنت تتلو هذا المشهد النبوي الجليل بين الابن المؤمن النبي المشفق على أبيه الكافر العنيد:
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبراهيم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً، قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}.
على الداعية أن يطلع على أساليب الحوار وفوائده الجمة، فمهما زاد عنت الناس، فإن أفضل ما يخاطبهم به هو إقامة الحجة بالدليل والبرهان
ومما يلفت الانتباه أن إبراهيم عليه السلام صاحب الحجة البالغة والمنطق الراشد تراه يلتزم أمر الله الذي لم يكن منطقياً للناظر إليه للوهلة الأولى، ومع ذلك لم يستفسر إبراهيم عليه السلام مجرد استفسار لماذا هذا الأمر يا رب؛ وانظر معي إلى أمر الله عز وجل إبراهيم أن يأخذ زوجته وابنه الرضيع ليضعهم في وادٍ غير ذي زرع، وتسأله زوجته أين تذهب وتتركنا، فلا يرد، وتلح في السؤال فلا يجيب، حتى تدرك بنفسها وتسأله: آلله أمرك بهذا؟ لتعلن السمع والطاعة والثقة بما عند الله عندما أجابها بنعم.
وانظر إلى الأمر الآخر حين أمره الله عز وجل بأن يذبح ابنه، ولعل من حسن التزام نبي الله إبراهيم بالأمر أنه أطاع مع أن الله لم يأمره بشكل مباشر، بل على شكل رؤيا في المنام، ليعلن نيته الجادة بالتنفيذ، وليأخذ ابنه ويحد سكينه ويوجهه إلى الصخرة كي لا يتوانى شفقةً على ابنه عن أمر الله ولو لحظة، ولهذا أخبرنا الله عز وجل بعد نجاح إبراهيم بهذا الاختبار قائلاً: {إن هذا لهو البلاء المبين}.
هذا غيض من فيض، ولو أفضنا فيه لطال بنا المقام دون إدراك ري الظمأ لكن نكتفي بشذرات من الدروس في فن المحاورة والإقناع.
وأخيراً كل هذا يجب أن يكون نبراساً للداعية في وجوب اطلاعه على أساليب الحوار وفوائده الجمة، وأنه مهما زاد عنت الناس، فإنك أفضل ما تخاطبهم به هو إقامة الحجة بالدليل والبرهان.