التصورات المثالية.. كيف تصيغ رؤية سليمة للواقع؟

الرئيسية » بصائر الفكر » التصورات المثالية.. كيف تصيغ رؤية سليمة للواقع؟
vision18

لا نزال مع بعض المشكلات والأمراض التي باتت تنتشر نتيجة عوامل عدة، داخل الصف الإسلامي، وخصوصًا بين جيل الشباب الصاعد، والذي من المفترض أن يتم من الآن تأهيله لحمل مسؤولية القيادة في السنوات والعقود التالية.

ومن بين أهم هذه المشكلات، بعض الأمور والمنطلقات المعطِّلة في الجانب الحركي ، وعلى رأسها النوستالجيا والتصورات المثالية.
وتُعرَّف النوستالجيا، على أنها استحضار الماضي بشكل عاطفي أو معنوي، أو الحنين إليه، وبالتالي؛ استلهامه في كل ما يتعلق بالواقع.

ويبالغ البعض في هذا الأمر –وهو ما يجعله معطِّلاً- حيث إنه يقف عند مستوى أمجاد الماضي وإنجازاته، وبالتالي، لا يسعى إلى صناعة حاضر ومستقبل آخر، يكونا بمثابة ماضٍ آخر مجيد للأجيال القادمة.

ويأتي الوقوف المبالغ فيه في هذا الصدد، كعائق نفسي مهم، يمنع الإبداع، ويدخِل في روع الإنسان، أنه مهما فعل وقام وحارب وجاهد؛ فإنه لن يمكنه أبدًا صناعة ماضٍ مثل ذلك.

في المقابل، فهو عندما يرى أمامه المشكلات الصعبة العويصة، ويكون غير قادر على التعامل معها؛ فإنه يلجأ إلى كتب التاريخ ومُصوَّراته، من أجل الشعور بالراحة النفسية، وبالتالي؛ فهو يبدو كمن يتعاطى نوعًا خاصًّا جدًّا من أنواع المخدرات.

من المفيد أن نعتز بتاريخنا وهويتنا، وأن نستلهم بطولات الأجيال السابقة، وأن نجعل تضحياتهم عاملاً محفزاً لا عائقاً أمامنا

ومن المفيد أن تكون النوستالجيا موجودة؛ أن نعتز بتاريخنا وهويتنا، وأن نستلهم بطولات الأجيال السابقة، وأن نجعل تضحياتهم عاملاً محفزاً؛ لا عائقاً أمامنا، فهذا حق الأجيال القادمة على الجيل الحالي، أن يخلق لهذه الأجيال الأرضية الملائمة لها لكي تبني على أسس راسخة، مع تباعد الزمن بينها وبين الجيل الأول، الذي ظهر قبل مئات الأعوام.

وترتبط هذه المسألة، بكُلِّيَّةٍ كبرى في سياق المشكلات المفاهيمية التي لها انعكاسات على سلوك وحركة الأفراد، وهي غَلَبَة التصورات المثالية على الفكر والوجدان.

فالنوستالجيا المتطرفة، المعطِّلة، هي نوع من أنواع #التصورات المثالية التي تكون لدى الفرد، عن الكون والحياة والمجتمع، وما يجب أن يحكم ذلك من قيم.

وبالمثل؛ فإن وقوف الإنسان أمام هذه التصورات فحسب؛ فإنه سوف يتعرض للهزيمة؛ حيث سوف يتجمد مكانه، فيما خصمه يقوم بكل شيء من أجل تعظيم مكامن قوته ومصادرها، انطلاقًا من منطق واقعي صلب.

وهنا يجب التأكيد على أن الإنسان الرشيد، هو الذي يتحرك وفق منطلقين؛ الأول، هو أن تحكمك رؤاك القيمية والأخلاقية، وفق هذه التصورات، والثاني، هو التحلي بروح #الواقعية في المقابل، وفق حقيقة عمرانية شديدة الأهمية، وضعها الله تعالى في خلقه، وهي أن هذه التصورات لا يمكن لها أن تسود وتحكم.

وهذا أمر بديهي، فلولا ذلك ما كانت سُننٌ مهمة مثل سُنن #الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، والتدافع بين الإطارَيْن، لحِكَمٍ إلهية لا نعلمها، الله وحده يعلمها، ومن بينها ما علمناه من القرآن الكريم، هو أن يميز الله تعالى بين الخبيث والطيب، ويجعل الحق ظاهرًا.

فيقول الله تعالى في سُورة "الأنفال"، بعد آيات عدة تحدث فيه عز وجل عن الكفار والمنافقين على عهد النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وما كانوا يقومون به من أجل إحباط الدين في مهده: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}.

ومن بين ما أنبأنا به القرآن الكريم من حكمٍ إلهية في هذا الصدد؛ سُنن التدافع، بحيث يسود التوازن الكون، بشكل يضمن استمراره كما أراده الله تعالى، إلى أن يشاء الله تعالى.

فيقول الله عز وجل، في سُورة "البقرة": {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}، وفي سُورة "الحَج"، يقول تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}.

يجب على المسلم الصحيح الإيمان، ترويض النفس على وجود القيم السلبية والشر وغير ذلك مما اتصل، لأن وجودها هذا حتمي، شاء أم أبى، وهذا لا يعني أن عليه "قبولها" بل محاربتها

فيجب على المسلم الصحيح الإيمان، ترويض النفس على "تقبُّل" وجود القيم السلبية والشر وغير ذلك مما اتصل، لأن وجودها هذا حتمي، شاء أم أبى، لأنها قانون إلهي في الخلق.

ولكن ثمَّة ما ينبغي التأكيد عليه وتوضيحه، فهو إن كان من الواجب عليه "تقبُّل وجود" هذه القيم السلبية، ووجود الشر، فهذا لا يعني أن عليه "قبولها".

والفارق بينهما، أن قبولها هذا ينفي عن المسلم الرغبة في #الإصلاح و#التغيير، وهذه من بين أهم مهام الإنسان المسلم في الحياة؛ التغيير والإصلاح.

وفي هذا الصدد، فإن المحاضن التربوية عليها غرس فكرة أن الحنين إلى الماضي، واجب وضرورة ولكن لالتماس النموذج والقدوة، والإحساس بالفخر، ولكن وجود هذا الماضي لا يمنع أنه يمكننا أن نصنع ذات الأمجاد.

الإسلام والمسلمون بحاجة إلى إطار يحميهم، والماضي لن يحول بيننا وبين أعدائنا، بل يجب أن نصنع حصوننا نحن، ونمتلك سلاحنا نحن؛ لا نتترس خلف حصون أسلافنا، ونحارب بسلاحهم الذي أبلاه الزمن

الإسلام والمسلمون بحاجة دائمة إلى إطار يحميهم، ويصون العرض والمال والنفس وسائر مقاصد الشريعة، والماضي لن يحول بيننا وبين أعدائنا، وبالتالي، فإننا يجب أن نصنع حصوننا نحن، ونمتلك سلاحنا نحن، لا نتترس خلف حصون أسلافنا، ونحارب بسلاحهم الذي أبلاه الزمن.

كما أن عليهم التأكيد على أنه مهما آمنَّا بالقيم والمُثُل العليا؛ فإنه لابد من وجود الشر، وأن هذا الشر ماضٍ بإرادة الله تعالى، والذي لا يمضي في ملكوته أي مثقال؛ إلا بإرادته، وأن ذلك الشر، وتلكم القيم السلبية؛ إنما هي قدرها الله تعالى للخير؛ حيث إنه لولا وجود الشر؛ ما سعى الإنسان إلى فِعْل الخير، والتمسك به، ولفسدت الأرض كما قال الله تعالى في كتابه العزيز.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …