ضمن المعارك الفكرية والإعلامية التي يواجهها المشروع الحضاري الإسلامي، بمختلف اتجاهاته؛ خرج علينا الإعلامي المصري، إبراهيم عيسى، مؤخرًا بعمل "أدبي" جديد بعنوان "رحلة الدم - القتلة الأوائل"، في الجزء الأول منه، والذي صدر عن "دار الكرمة" القاهرية.
وفي روايته هذه، يوظَّف عيسى الماهر إعلاميًّا، صفته ومعاركه الفكرية والسياسية في الإطار الإعلامي، في خدمة خطه الفكري والسياسي العام.
وأتى هذا التوظيف في اتجاهَيْن؛ الأول في اختياره لموضوعات رواياته، والتي تنسجم تمامًا مع هذا الخط الذي اختاره، والذي يقترب –بشكل موضوعي– من خط فرج فودة وفاطمة ناعوت، وغيرهما من هذه النوعية من الكُتَّاب والمفكرين ممن يوصفون –بشكل موضوعي كذلك– بأنهم من غُلاة العلمانيين، وبالتالي؛ فهم "يعادون" –بالمعنى الحرفي للكلمة– ما اصطلح على تسميته بالإسلام السياسي والجهادي، وجماعاته.
ويضع هؤلاء مختلف الجماعات الإسلامية في بوتقة واحدة، مهما كان التباين بينها في منطلقاتها الفكرية والفقهية، وطبيعة أنشطتها الاجتماعية والسياسية، ومواقفها من العنف، وتجعلها كلها تنطلق من معين واحد، وهو "التكفير" و"الإرهاب"، رادين إياه إلى أصل قريب، وهو الإمام الشهيد حسن البنا، وجماعة "الإخوان المسلمون"، وأصل بعيد نسبيًّا، وهو جيل الأئمة السلفيين المتأخرين، وعلى رأسهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
الفارق المهم بين عيسى وباقي العلمانيين، هو ما أتاه في روايته الجديدة، وهو أنها تباعد زمنيًّا بجذور قضية الإرهاب والتطرف الفكري والفقهي، إلى مستوى أن وصل في اتهاماته، إلى جيل الصحابة الكرام
في الإطار السابق، تأتي مختلف أعمال وبرامج عيسى، الأدبية والإعلامية، لتحاول أن تكرِّس صورة ذهنية معينة عن الحركة الإسلامية، وعلماء الدين والمتدينين بشكل عام، تنصب في اتجاه سلبي بطبيعة الحال؛ إما ضعيف العقل والعلم، أو منتفع من السلطة، أو متعصب متطرف، أو يبرر الإرهاب، وهكذا؛ كما تقدم روايته، "مولانا"، والفيلم الذي أُنتج منها.
ولكن الفارق المهم بين عيسى وهؤلاء، وهو ما أتاه في روايته الجديدة، "القتلة الأوائل"، هو أنها تباعد زمنيًّا بجذور قضية الإرهاب والتطرف الفكري والفقهي، إلى مستوى أن وصل في اتهاماته، إلى جيل الصحابة الكرام، رضوان الله تعالى عليهم جميعًا.
وفي هذا الإطار، نقف أمام بعض الأمور في الرواية الجديدة التي صدرت قبيل الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، لكي نفهم حقيقة ما أراده عيسى من الرواية، وجعلنا نشير في المقدمة إلى الحرب الدائرة حاليًا في مساحات مختلفة للمشروع الحضاري الإسلامي.
في مستهل روايته، يقول هو والناشر؛ إن الرواية عبارة عن ثبت تاريخي موثَّق، ولكنه مقدَّم في صورة رواية أو عمل إبداعي أدبي، ثم يبدأ بصورة درامية بانورامية للحظة مقتل سيدنا عليٍّ بن أبي طالب "رضي الله عنه"، وينتهي بها، بعد تطواف تاريخي واسع، بدأه من نقطة زمنية تسبق هذا الحدث الكبير بعشرين عامًا، من لحظة تولي عمر بن الخطاب "رضي الله عنه"، للخلاقة.
وهذا التحديد الزمني مهم في توضيح إسقاطات ومدلولات عنوان الرواية على أصحابها الذين قصدهم عيسى؛ حيث يقصد بـ"رحلة الدم"، ونقطة بدئها، دولة الخلافة الراشدة، وبـ"القتلة الأوائل"، الكثير من الصحابة الكرام، وليس كما قال البعض بأنه يقصد مرحلة الفتنة الكبرى التي تلت مقتل سيدنا عليٍّ بن أبي طالب، وأنه يقصد الخوارج، بعبارة "القتلة الأوائل".
ذكر عيسى أنه استقى أحداث الرواية التي تقع في حوالي 700 صفحة، من مصادر كذا وكذا، ذاكرًا عددًا من كتب التراث الإسلامي المعتبرة، مثل "البداية والنهاية"، لابن كثير، و"الكامل في التاريخ"، لابن الأثير، وصحيح البخاري، وغيرها.
هنا سوف نسلِّم بأن المحتوى الذي قدمه عيسى، صحيح بالكامل، بالرغم من أنه ليس صحيحًا بنسبة كبيرة؛ حيث هناك –وهو الخطأ الرئيسي له– الكثير من الأخطاء التاريخية التي وقع فيها، مثل ما يتعلق بصيرورات علاقة سيدنا عثمان بن عفان وسيدنا علي بن أبي طالب، والعلاقات بين الصحابة بشكل عام، حتى على مستوى نقطة تواجدهم معًا في مجال جغرافي واحد في لحظة زمنية بعينها، مع خروج الكثيرين منهم كولاة وعمَّال للخلفاء الراشدين على الأمصار المفتوحة.
كما أنه، وفي ظل كونه يكتب رواية وليس عملاً تأريخيًّا علميًّا، بما يفرضه كلاهما من صياغات مختلفة؛ فإن التوجيه قد لا يكون في معلومة تاريخية خاطئة، وإنما في توجيه الحوار وسياقات الحديث في الرواية، للقارئ لوجهة عاطفية معينة، وهو وحده يكفي لوصمها بعدم المصداقية أو انحرافها عن مسارها التاريخي الذي أراده.
ففي موقف ما، يمكنني –كأديب– أن أجعل من فلانٍ شيطانًا أو ملاكًا، من خلال رسم طبيعة مشاعره في اللحظة التي أكتبها، حتى ولو كان يقول ذات الكلمات، بينما المؤرِّخ يقف فقط بأدواته الجافة المحايدة، عند ذِكْر الموقف وما قيل فيه، من دون أي عبث بطبيعة مشاعر قائل العبارات.
وفي حالتنا هذه، فإنه – على أبسط تقدير – فإن كتب التاريخ الإسلامي لم تتضمن مشاعر عثمان لما خاطب عليًّا في أمر كذا؛ هل كان مصدومًا أو حزينًا أو متحمسًا، كما جاء به عيسى.
يقول عيسى في تقديمه للرواية إن تلك المرحلة غيرت وجه العالم بالكامل حتى الآن، وهو يقصد البُعد السلبي في الأمر، ونحن نسأله: كيف غير الإسلام وجه العالم؟! ولماذا لا يذكر قرون التطورات التي أدخلها المسلمون على سياق العالم الحضاري
وبالتالي؛ فإن ما يمكن أن يستخلصه القارئ من صياغات عيسى، موجَّه، وكذلك غير ثابت يقينًا بأي حال، مع وجود حوالي 20 جيلاً بيننا وبين هذا الجيل الذي كان موجودًا في عصر لم يكن به أي شكل من أشكال وسائل التسجيل الصوتي أو المرئي لكي تجزِم بماهية مشاعر فلان لحظة قوله أو فعله لكذا، وهي أمور أهميتها تكمن في أنها الفيصل بين تعاطف أو نفور من فلان هذا، وبالتالي؛ فهي مصيرية في تحديد موقف المتلقي.
ثم إنه في موضع من تقديمه للرواية، نجده يقول إن تلك المرحلة غيرت وجه العالم بالكامل حتى الآن، وبطبيعة الحال، هو يقصد البُعد السلبي في الأمر؛ فإننا نسأله: كيف غير الإسلام وجه العالم؟!، ولماذا لا يذكر قرون التطورات التي أدخلها المسلمون على سياق العالم الحضاري، وما شهد به أعداء الأمة أنفسهم بما وضعه المسلمون من أسس أخلاقية في مجال الإنسانيات؟!
ثم هو يصف صحابة كرام بأنهم: قتلة وتكفيريون، وهو أمر غير صحيح بحال، وكان لابد له لكي يخرج عملاً بهذه الحيثية، وهذه الأحكام الخطيرة، أن يراجعه تاريخيًّا على يد متخصصين، وهو أمرٌ معروف في مثل هذه الأحوال؛ حيث نجد الكثير من الأعمال الدرامية الخاصة؛ تضع ما تقوله أمام مؤرخين وخبراء لغويين لكي العمل سليمًا من هذه الناحية؛ لو أراده أصحابه توثيقيًّا.
ونأتي هنا للنقطة الأهم: ما هي الفائدة التي سوف تعود على الأمة من استرجاع هذا التاريخ، بفرض أن ما ذكره صحيحًا، وهو ليس بصحيح؟!
هذه التفكيكية الفوضوية؛ لا تصب في المصلحة العامة، فلا توجد أية فائدة سوف تعود على الأمة -بفرض أن أبناءها سوف يقتنعون بما يقول- في أزماتها الراهنة؛ بهذه "المكاشفة" و"المصارحة" التي حتى لو كان محتواها صحيحًا –وهو باطل هنا– فإنها إن مورست بشكل خاطئ؛ فهي تقود إلى كوارث، كما حصل من جورباتشوف في حالة الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث كانت مكاشفاته ومصارحاته تتم بالطريقة الخطأ؛ فكانت نهاية إمبراطورية كاملة!
مشكلاتنا الآن مع تنظيم وظيفي مثل "داعش" أسسته مخابرات دولة غير مسلمة، ومع أنظمة مستبدة فاسدة، بعضها "قومجي" والآخر "مذهبي" متعصب، ولكنها تقدم نفسها على أنها طليعة الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، وتحكمنا باسم الدين أو الوطنية
إن مشاكلنا كمسلمين في الوقت الراهن، ليست حتى مع جيل الخوارج الأول، من أهل السُّنَّة، ولا الحشاشين أو القرامطة الشيعة؛ إن مشكلاتنا الآن مع تنظيم وظيفي مثل "داعش" أسسته مخابرات دولة غير مسلمة، لهدم الإسلام في نفوس أبنائه وأمام الأمم الأخرى، ومع أنظمة مستبدة فاسدة، بعضها "قومجي" والآخر "مذهبي" متعصب، ولكنها تقدم نفسها على أنها طليعة الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، وتحكمنا باسم الدين أو الوطنية.
وفي الأخير؛ فإن عيسى لم يقدم أي شيء يفيد من التاريخ، في توصيف الأزمات الحالية، بل إن منهجه صدَّق على رسالة هدامة أرادها خصوم الأمة، وهي أن "التكفيريين" و"الإرهابيين" الآن؛ هم صنيعة الدين، بينما هم صنيعة أمرَيْن؛ مخابرات أعداء الأمة وإعلامهم، وفساد الأنظمة الحاكمة.. هكذا ببساطة!