يلفت نظر القارئ لتراجم العلماء المشهورين في تاريخنا أن قلةً منهم قد ذُكر أن لهم إسهامات في الجهاد في سبيل الله تعالى، مع أن الجهاد كما ورد في الحديث هو ذروة سنام الإسلام، فهل كان الجهاد حاضرًا لدى علمائنا السابقين المشهورين؟
بداية يجب أن نعلم أن #الجهاد في أغلب فترات التاريخ الإسلامي كان من فروض الكفاية، التي إن قام بها البعض سقطت عن الآخرين، وأن كثيرًا من #العلماء كانوا يشتغلون بفرض آخر من فروض الكفاية وهو (العلم)، ولكن هل كان الجهاد غائبًا عنهم بالمطلق كما يظن البعض، بحيث يتصورهم منشغلين بالعلم فقط، وليس في ذهنهم شيء غيره؟
لقد ركّز الذين نقلوا لنا تراجم هؤلاء العلماء وسيرتهم على المجال الذي تخصصوا فيه، فنقلوا لنا الجانب البارز من نشاطاتهم، وهو الجانب العلمي، وغاب عنهم أننا يلزمنا كثيرًا أن نرى الصورة الكاملة لشخصية العالم، في حياته وعلاقته مع الآخرين ودوره في المجتمع.
ولأن الصورة الكاملة غائبة، فلم يبق لنا لاكتشاف بقية الصورة إلا البحث عن لفتة هنا أو لمحة هناك، وهي لمحات ذات دلالة، إذ تؤكد على أن مجال النشاط الذي كان علماؤنا يمارسونه كان واسعًا، ويشمل فيما يشمل موضوع الجهاد في سبيل الله تعالى.
حكايتان سأسردهما للتدليل على ما سبق، إحداهما عن الإمام الشافعي والثانية عن الإمام البخاري، وهما إمامان عظيمان، لهما من السمعة في الساحة العلمية ما يغني عن الحديث عنهما، غير أنك لن تجد في من كتب عن هذين الإمامين من أبرز هذا الجانب في ترجمتهما.
• الشافعي المرابط
ذكر الذين كتبوا سيرة الشافعي أنه كان يختم القرآن في رمضان (60) ختمة، يعني مرتين في اليوم... البعض يتشكك في هذه المعلومة، والبعض يستدل بها على اجتهاد الشافعي في العبادة، أما أنا فسأستدل بها على مساهمة الشافعي في الجهاد في سبيل الله؟
كيف ذلك؟
السؤال الذي يفرض نفسه: متى وأين كان الشافعي يقرأ القرآن ويختمه كل يوم مرتين، وهو منشغل بنشر العلم؟؟؟
والجواب على هذا السؤال يكشفه لنا تلميذه الربيع الذي روى عنه ذلك، إذ يخبرنا أن الشافعي كان يخرج من الفسطاط إلى الإسكندرية مرابطًا...
لاحظوا: كان يخرج (مرابطًا) لا يخرج للتنزه والترويح عن النفس؟
كان الشافعي يخرج للإسكندرية ليرابط ويؤدي واجب الجهاد، فكان يصلي الصلوات الخمس في المسجد الجامع، ثم يسير إلى المَحْرَس، فيستقبل البحر يقرأ القرآن في الليل والنهار
وكانت الإسكندرية إحدى ثغور الإسلام، والتي تقع على الحدود البحرية للدولة الإسلامية، وكان يلزم أن يرابط فيها مجاهدون لئلا يفاجئهم العدو، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ).
كان الشافعي يخرج للإسكندرية ليرابط ويؤدي واجب الجهاد، فكان يصلي الصلوات الخمس في المسجد الجامع، كما يقول الربيع تلميذُه الذي كان يرافقه، ثم يسير إلى المَحْرَس، أي إلى نقطة الحراسة التي يداوم فيها، فيستقبل البحر بوجهه جالسًا يقرأ القرآن في الليل والنهار، حتى أحصى الربيع عليه ستين ختمة في شهر رمضان.
لاحظوا معي أن أكثر الكتب والمؤرخين ركزوا في هذه القصة على عدد الختمات التي كان يختمها الشافعي، ولم أجد أحدًا فيما قرأت، ركّز على عملية (#الرباط) التي كان يقوم بها الشافعي، مع أنها تبرز اهتمام هذا الإمام بأداء دور جهادي في حياته، خصص له جانبًا من وقته رغم انشغاله بفريضة أخرى هي فريضة نشر العلم.
• البخاري واستحضار نيّة الرباط
ماذا عن البخاري؟، ذلك الإمام العظيم في علم الحديث، صاحب أصح كتاب بعد القرآن الكريم؟ هل كان الجهاد حاضرًا في ذهنه؟ أم أنه بقي عنده شأنًا نظريًّا يروي أحاديثه ويبتعد عنه؟
يحدثنا أحد تلاميذه الذي كانوا يرافقونه عن ذلك فيقول إنه كان معه يومًا في (فِرَبْر) وهي بلدة صغيرة بين جيحون وبخارى الواقعتين في أوزباكستان حاليًّا، وكان البخاري يصنف كتابه الصحيح، فتعب، واستلقى ليستريح، فسأله تلميذه فقال له: سمعتك تقول يومًا إني ما أتيت شيئا بغير علم قط منذ عقلت، فأي علم في هذا الاستلقاء؟
وهذا السؤال من التلميذ ليس سؤال متعنّت لائم، بل هو سؤال من يريد الفائدة من الجواب، فماذا كان ردُّ البخاري، وما الذي كان في نيّته عندنا خَلَدَ إلى الراحة؟
لقد كانت المدينة التي كانوا فيها مدينةً حدوديةً، معرَّضةً ليغزوها العدو في كل حين، في ذلك الزمن، ولم يكن هذا غائبًا عن البخاري.
فقال لتلميذه: لقد أتعبنا أنفسنا في هذا اليوم، وهذا ثغر من الثغور، خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح وآخذ أُهبَةً ذلك، فإن عافصنا العدو كان بنا حراك.
والمعافصة كما المعافسة كلمتان تدلان على الاصطراع، ويقال في اللغة عفص يده أي لواها.
كان البخاري مستحضرًا نيَّة الرباط، والرباط من أعمال الجهاد، وكان مجهزًا نفسه لأداء الدور المطلوب منه إن احتاجته الساحة، ولم يشغله العلم والحديث عن التفكير بذلك
فالبخاري كان مستحضرًا نيَّة الرباط، والرباط من أعمال الجهاد، وكان مجهزًا نفسه لأداء الدور المطلوب منه إن احتاجته الساحة، ولم يشغله العلم والحديث عن التفكير بذلك والتحضير له.
وهذا الذي ذكرناه نموذج آخر غائب عن دور العلماء في الجهاد، العلماء الذين لم نسمع يومًا عن إسهام لهم فيه، ليس لأنهم ليس لهم إسهام فيه، بل لأن المؤرخين لم يولوا هذا الجانب من حياتهم العناية اللائقة به.
إن تاريخنا بحاجة إلى إعادة قراءة، لنرسم من خلاله صورة متكاملة بشكل أكبر عن كثير من عناصر هذا التاريخ.
_______________________
ملاحظة:
قصة الشافعي عن الربيع رواها البيهقي في كتابه (مناقب الشافعي)، 2/158. أما حكاية البخاري فتجدها في تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، 2/332-333.