دخلت الغرفة لأستعد لكتابة مقالي الأسبوعي، وتجهزت الأفكار في عقلي واستقرت بقلبي، فأمسكت بقلمي لأكتب كعادتي، فالتدوين والكتابة عشقي مع القراءة والاطلاع.
لكن ولأول مرة، يرفض القلم أن يكتب، بل أعلن تمرده وسقط من يدي، في تحدٍّ واضح لي. وفي هذه اللحظة، تشتتت الأفكار من عقلي واهتزت في قلبي، وصار هناك شبه صراع ثلاثي بين العقل والقلب والقلم، وعم الصمت المكان فلا حراك فيه، بل نظرات تعمُّق وتركيز عقليّ ورغبة قلبية وجسد ساكن. ثم دار حوار داخلي بين عقلي وقلبي، وكل منهما يسعى لاستمالة قلمي، ليكتب ما يمليه عليه من كلمات وعبارات. وأنا في هذه اللحظة ممسك بقلمي منتظراً التوجيهات العقلية والرغبة القلبية ومترقب.. فجأة، بدأ الحوار:
العقل قائلاً للقلم: اكتب أن هذا الواقع الذي نمر به كشباب الحركة الإسلامية وما نعانيه على مدار الساعة يدفعان للرحيل والترك، والسياسات الخاطئة القائمة تعجل بهذا الأمر، فنحن في مهازل وأزمات تفوق القدرات.
فقال القلب: ثم ماذا..؟ ماذا بعد الترك والرحيل، هل تبحث عن الأمان؟! فلن تجده وأنت تعلم ذلك جيداً!
هل تبحث عن السعادة وراحة البال؟! وهل هناك أسعد من لقاء الأحبة وتذكرهم ومجالستهم، وهذا الرابط الرباني بينكم -ورد الرابطة- الذي يقرب المسافات ويحبب القلوب ويوحد العقول؟
هل تستطيع -يا صاحب القلب الطيب- أن تترك أخاك الذي تحبه أو شيخك الذي تُجلّه، أو ذاك الشاب اللطيف الذي قابلته في هذه المحنة؟
وهل تستطيع -يا صاحب القلب الطيب- أن تترك أخاك الذي تحبه أو شيخك الذي تُجلّه، أو ذاك الشاب اللطيف الذي قابلته في هذه المحنة؟ فكِّر يا حبيبي قبل أن تتعجل القرار، فنحن في جنة الحب في الله. دعك من القادة وأخطائهم، كن أنت الفكرة والجماعة!
وهنا، ذرفت الدموع من العيون مع استرجاع لمشاهد الإخاء والعاطفة، وهنا تدخل العقل بمداخلة سريعة قائلاً: حقاً حقاً ولهذا وضعنا صعب، والسبب فيه هذا الكلام الذي يدغدغ المشاعر.. هذا الكلام تقوله لحبيبتك، وليس عن محنة مزلزلة كالتي نعيشها! كفانا مشاعراً و عاطفة، فلم نحصد منهما إلا ما تراه الآن: تشتت واعتقالات ومطاردات، وأزيدك أيضاً تخوين ومزايدات!
نريد عملاً واقعياً وحياة واقعية، يكفي إلى هذا الحد، لقد ملَّ الناس وأصابهم التعب، ولم يعد هناك حلول، أهالي المعتقلين يصرخون وأبناء المطاردين أصابتهم الأمراض، نتيجة غياب آبائهم عنهم. ثم صرخ في القلب: «لديك جديد قدِّمه، وإلا فارجع خطوة للخلف وكفى».
الفهم الحقيقي هو الذي يبني ويجمّع، لا يهدم ويفرق، ورحم الله رجلاً نزل ميداناً لمصارعة خصمه، وفي أثناء البدء وجد بيده مدفعًا وسلاحًا، فنظر لكل أنصاره من خلف وأعلن أنه خسر هذه الجولة حمايةً له ولمن معه
ثم نادى العقل على القلم وقال: اكتب أن الفهم الحقيقي هو الذي يبني ويجمّع، لا يهدم ويفرق، ومن ثم فرحم الله رجلاً نزل ميداناً لمصارعة خصمه، وفي أثناء البدء وجد بيده مدفعًا وسلاحًا، فنظر لكل أنصاره من خلف وأعلن أنه خسر هذه الجولة حمايةً له ولمن معه.
وهنا، صرخ القلب في مداخلة سريعة: «تمام تمام تريدني أن أبيع الناس وأخون الشهداء، والمعتقلين وأنسحب من المشهد هل هذا هو العقل والفكر والثقافة يا عقل؟! لا والله لن نخون الله في دماء إخواننا وأعراض أخواتنا، وسنظل حتى آخر قطرة، ولن نتعطل والله معنا ولن يَتِرنا أعمالنا، وإما حياة تسر الرفيق وإما ممات يغيظ العدا».
فقال العقل: كلام جميل وممتاز، وسأغضّ الطرف عن تخوينك، لن أفعل مثل بعض القيادات التى تخرج علينا من خلال الشاشات لتقدح في الشباب وتصفهم بالعنف والإرهاب بينما إخواننا يقبعون في بيوتهم بلا حول ولا قوة. لكن طالما وصل الأمر إلى هذا الحد، أقول لك: تفضل الميدان كبير، أرنا هذا القصاص الذي تتحدث عنه! أسعِدنا بالثأر ممن اغتصب أخواتنا! أدخل علينا السرور بمن حبس الكرام فينا! كفانا مشاعر جياشه وخُطباً عصماء، مللنا من الكلام والخُطب على مدار أربع سنوات ولا جديد».
فرد القلب: نحن مطالَبون بالأخذ بالأسباب فقط والنتائج على الله. وهنا، ضحك العقل بشدة وقال: يا حبيبي، أنت لم تأخذ بالأسباب إطلاقا، فما زال العطل والتعطل هو سيد المواقف، ولا أدري على ماذا تعول؟! لقد طال الانتظار.
فقال القلب خاتماً حديثه: دوام الحال من المحال، وبين طرفة عين وأخرى يغير الله الأحوال. فقال له العقل: إذن، نعول أن هذا الكون له إله ونعول على دعوات المظلومين، وأنّات الجرحى والمصابين وأنين الأمهات والأرامل. فقال له القلب: نعم. فقال العقل: نعم، ولكن نتمنى المزيد، نشتاق لرؤية ومنهاج وبصيرة، فالواقع مر إليم، والشباب بدأ يتفلت بشكل مريب. ثم همس في أذنه وقال: يتفّلت! هذا مصطلح بسيط يا قلب. والناس تشكو ووضعك الداخلي أصبح مريراً.
فقال القلب: يفعل الله ما يشاء واكتب يا قلم ما تشاء. وقال العقل: يفعل الله ما يشاء واكتب يا قلم ما اقتنعت به. وهنا، نظر القلم لهما ثم بدأ يكتب ما قاله الشهيد البطل سيد قطب:
قد اختارنا الله في دعوته ** وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم ** ومنا الحفيظ على ذمته
وهنا تعانق القلب والعقل والقلم وأعلنوا بقاءهم بفهم ونصح وإصلاح حتى النهاية دون النظر لمدح فلان أو قدح آخر.