حين تجدد الخلافات صفو المودّات!

الرئيسية » خواطر تربوية » حين تجدد الخلافات صفو المودّات!
disagree15

لماذا تقع #الخلافات؟ وهل هي حقا مُكدِّرات لصفو الوِدَاد أم هي على الحقيقة مجددات لما ذبُل من أغصانه؟

من روائع د. مصطفى محمود في مقاله "أسرار الشعور": "إن الدوام قاتل الشعور، لأن أعصابنا عاجزة بطيبعتها عن الإحساس بالمنبهات التي تدوم. نحن مصنوعون من الفناء، ولاندرك الأشياء إلا في لحظة فنائها. نشعر بثروتنا حينما تفر من يدنا، ونشعر بصحتنا حينما نخسرها، ونشعر بحبنا حينما نفقده. فإذا دام شيء في يدنا، فإننا نفقد الإحساس به".

هو ذاك! إننا لا نستشعر مدى احتياجنا لمن اعتدنا وجودهم ورضاهم وبسمتهم وعطاءهم، إلا حين ينقطع ذلك، بسفر أو وفاة، أو خلاف وجَفوة . و#الخلاف كأنه سفر أصغر أو وفاة صغرى، من حيث أثره في إيقاظ ما خمل من أحاسيس اعتدناها حتى فقدنا الشعور بها، وفي تنبيه المعاني التي لم يكن يتسع وقتنا واعتيادنا وانشغالنا للتوقف عندها من قبل. فإذا بالفراغ الذي خلفه الأحبة له وقع كالصدى، وقد كنا من إلفنا وطول اعتيادنا، كشبعان من التخمة لم يعد للمذاق عنده طعم، فإذا جاع تذوق! في الخلاف يتعلم القلب كيف يتألم لفقدان المعاني التي كَمْنَت فيه حتى خَمَلت، وكيف يقدّر ما طال عهده به من تواجد أحبته، حتى ظنهم حقا مكتسبا، وله خالدين!

في الخلاف يتعلم القلب كيف يتألم لفقدان المعاني التي كَمْنَت فيه حتى خَمَلت، وكيف يقدّر ما طال عهده به من تواجد أحبته، حتى ظنهم حقا مكتسبا، وله خالدين

ولأنه لا تخلو علاقة مهما صفت من كدر يجدد صفاءها إذا أحسن التعامل معه، فلو أننا نتنبه لحقيقة نفع الخلافات وحكمة تقديرها في كل العلاقات الإنسانية، لما حوّلنا كل خلاف يراد به أن تنبيه القلوب إلى حرب شعواء تطعنها بلا هوادة، ولما تصيّدنا كل فرصة لنشر ملفات الماضي من مرقدها بعد أن طواها الزمن، ولما انقلبت كل هبة تبعثها السماء لتوقظ القلوب الغافية إلى عاصفة عاتية تستجيش أعنف قوى الغضب والبغضاء والشحناء! لذلك ليست الخلافات هي المشكلة، بل القلوب هي العليلة، والخلافات تهيئ للعلة الفرصة لتظهر لكنها لا تخلقها بداية . فمن كثرت خلافاته، فليراجع علة قلبه وكوامن نفسه، فإنما هي نذير بأن العلاقة ليست سليمة الجذور ولا سوية التربة، ولا يصلحها إقامة ساقها الظاهرية كل حين والآخر، فلا تلبث أن تعود لمرضها.

لا تخلو علاقة مهما صفت من كدر يجدد صفاءها إذا أحسن التعامل معه، لو أننا نتنبه لحقيقة نفع الخلافات وحكمة تقديرها في كل العلاقات الإنسانية

ولأن اللسان جُعِل على القلب دليلا، فلا تكتم بلسانك ما وقر في قلبك ولا تنكره، لأنه لا بد يوما منكشف، لكن شتان بين مكاشفة صادقة في حوار قلبين متألمين، وبين تكاشف لاذع مُوجِع في تصارع وحشين جريحين . الأول يجلو النفس ويطهر القلب مهما كان مؤلما، والثاني يخلف ندوبا ويرسّب ضغائن لا تندمل، وإن سكن أنينها بين الحين والحين. اكشف عن مكنونك واستبن مكنون الآخرين في العلاقات التي تهمك، أفصِح واستفهم، ولا تكتم أو تخمّن، واشف صدرك وصدورهم أولا بأول، تأمن بعون الله عواصف القلوب.

لذلك من اليوم فلنتعاهد، ليس ألا نختلف، ولكن أن تكون خلافاتنا رحمة وقربى، أن تكون نسمة ربيع توقظ الغافي وتنبه الوَسْنَان، أو تكون أحيانا ريح خريف تعبث بالحنايا وتبعثر ما في خبايا الصدور، ولعلها تكون نَفَحات صيف تلهب العواطف وتستجيش ما خبا من مودات، لكنها لن تكون أبدا أعاصير شتاء تقتلع الجذور وتترك أصولها في العراء.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …