ناقشنا في مواضع سابقة، أهمية التجرُّد بالنسبة للقائد الحركي، وكيف أن هذا التجرُّد يصنع الفارق بين القائد الناجح، والقائد الفاشل، من خلال أهم نواتجه، وهي المصداقية، التي تجعل الأفراد يسيرون خلف قائدهم، واثقين في رؤيته، حتى النصر مهما كانت الصعاب.
ولئن كانت هذه الصفة مطلوبة وضرورية في القائد؛ فإنها أكثر ضرورة في الصف وجموع الأفراد الذين يتحركون في كل اتجاه، نصرةً للدعوة وللدين، مجاهدين في سبيل الله تعالى، بمختلف الصور، بالكلمة والموقف والعمل والسلاح.
ولعل أهم ما يزكِّي هذه السمة في الصف، وفي القادة كذلك، هو أنها تثري الجانب المتعلق بصدقية النوايا، وهو ما يسبغ على الإنسان المسلم حماية الله تعالى وتأييده له.
ولعل هذه الكلمات تعبر عن مشكلة من المشكلات المهمة القائمة في وقتنا الراهن، على مستوى الصف الحركي، وهو أن الكثير من الشباب المنتسب للحركة الإسلامية، قد دخلها، وبدأ يتحرك فيها إما بمنطق نفعي باغيًا الشهرة أو بمنطق المنفعة المادية.
وهو بطبيعة الحال، وضع لا يسمح بخوض معركة على أسس ثابتة وراسخة مستقرة؛ حيث إن الأمر لابد له من بواعث معنوية، ترتبط بالجانب الأخلاقي والقيمي للمعركة، ومدى رسوخه في نفوس الأفراد والمجموع الحركي العام.
الجيوش المبنية على أساس أخلاقي قيمي، أو على أسس أيديولوجية، أو تحارب لأجل قيمة أو قضية، تكون أكثر تماسكًا وثباتًا في أرض المعركة
وهو أمر ثابت ومعروف في العلوم الاستراتيجية؛ حيث إن الجيوش المبنية على أساس أخلاقي قيمي، أو على أسس أيديولوجية، أو تحارب لأجل قيمة أو قضية، سواء لأجل حماية الدين، أو الأرض، أو الدفاع عن الأعراض، تكون أكثر تماسكًا وثباتًا في أرض المعركة، من الجيوش التي لا تحارب لأجل قيمة.
وهو أمرٌ حتى واضح في الصراع بين فصائل المقاومة الإسلامية الفلسطينية، وبين جيش الاحتلال الصهيوني.
فبعد عقود طويلة من الصراع، نشأ جيل جديد من اليهود في الكيان الصهيوني، لا يحمل للكيان ذات مشاعر الانتماء الأيديولوجي الذي كان قائمًا لدى جيل الآباء الأوائل المؤسسين للحركة الصهيونية.
فصرنا نجد الجندي الصهيوني المدجج بالسلاح يفر أمام شخص بسيط غير مُدرَّب ذات تدريبه العسكري، ومسلح بسكين صغيرة أو بحجارة بسيطة، بل إن الانتفاضة الفلسطينية الحالية؛ شهدت حالات فرَّ فيها جنود صهاينة مذعورين مختبئين في صفائح القمامة، هروبًا من أطفال صغار لا يحملون في صدورهم وأيديهم، إلا عقيدتهم وإيمانهم بقضيتهم وبعدالتها.
إن هذا #التجرُّد هو ما يصنع أحد أهم عوامل الانتصار في التاريخ الإنساني، وهو الجندي المجهول، الذي هو صانع النصر الحقيقي.
صانع النصر الحقيقي، هو ذلك الجندي المجهول الذي لا يعرفه أحد، وحارب ومات أو حارب وانتصر، ولا يدري عنه أحدٌ أي شيء
فبينما يقف الساسة والقادة يتقلدون أكاليل الغار، ويلقون بالتصريحات هنا وهناك، وتلمع أضواء الكاميرات في وجوههم، ويراهم العالم كله؛ فإن صانع النصر الحقيقي، هو ذلك الجندي المجهول الذي لا يعرفه أحد، وحارب ومات أو حارب وانتصر، ولا يدري عنه أحدٌ أي شيء.
هذا الجندي المجهول هو الذي حمل السلاح وخاض غمار المعركة، وأعطى حياته ذاته، فداءً لمبدئه، وهو الذي تصدى للخطر بصدر عارٍ، وقدم أكبر دليل على تجرده ومصداقية ما يدعيه عن الإخلاص، بدمه وحياته، مع خوضه للحرب، وهو يتستر على نفسه، وعلى ما يقوم به، حتى لا تشوب ثمرته أية شائبة ذاتية، تذهب بأجر الشهادة العظيم.
ولا أحد ينكر أهمية دور القيادة في صناعة النصر، من خلال الرؤية والإدارة وضرب المثل ، إلا أنه من دون هذا الجندي المجهول المخلص، الذي يتجرَّد لأجل مبدئه؛ لا يتحقق #النصر.
ولنا في سيرة النبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، نموذجاً شديد الأهمية على التجرد وأن يتحول المسلم خلال المعركة إلى جندي مجهول لا يبغي من خوض غمار القتال، إلا وجه الله تعالى، حتى يتحقق له النصر.
ففي معركة "بدر"؛ انتصر المسلمون وهم قلة قليلة، لا يملكون في المعركة سوى إيمانهم، بينما في معركة "أُحُد"، هزموا وفيهم وعلى رأسهم نفس القائد، رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، لأنهم خاضوا جزء المعركة الحاسم وعيونهم على الغنائم، ولم يتجردوا للرسالة التي يقاتلون لأجلها.
وهذا الذي نقول ليس بدعًا من التاريخ؛ حيث يخبرنا تاريخ الأمة، وتاريخ الإنسانية العام، بأن الجندي المجهول هو صانع النصر .
فهناك صانع النقب الذي لا يعرفه التاريخ إلى الآن، بينما كان هو الذي انطلق وتحمل عبئ صناعة مفتاح النصر في المعركة بالكامل، عندما انطلق وفتح الثغرة المطلوبة في جدار الحصن الرومي الذي كان يحاصره المسلمون بقيادة مَسْلَمَة بن عبد الملك بن مروان، وانتصر المسلمون بعد طول مشقة.
صناعة الجنود المجهولين، هي مسؤولية القيادة بالأساس، والتي تعمل على وضع برامج تربوية دقيقة للغاية، تراعي مختلف الأمور المطلوبة لصناعة الجندي المجهول المتجرِّد
ولعل صناعة هذه النوعية من الجنود المجهولين، هي مسؤولية القيادة بالأساس، والتي تعمل على وضع برامج تربوية دقيقة للغاية، تراعي مختلف الأمور المطلوبة لصناعة الجندي المجهول المتجرِّد الذي لا يخرج إلا لأجل دينه ومقاصد شريعته؛ حفاظًا على الأرض والعِرض، ودفاعًا عن القيمة.
ومن المهم في هذا الإطار، أن تكون الدروس والبرامج التربوية متضمنة الهدي النبوي الكريم في ذلك، فها هو النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، يتنبأ لأحد المحاربين الأشداء الذين أبلوا في المعركة بلاءً حسنًا، بأن مصيره جهنم، لأنه لا يثقاتل إلا حبًّا في الشهرة، ولأجل أن يقول الناس عليه: انظروا!!.. هذا بطل!، وهو ما جعل في عمله شِرْكًا لله تعالى، وهو نَيْل إعجاب الناس.
إن الحركة الإسلامية في الوقت الراهن، لهي أحوج إلى أمرَيْن؛ الأول محاولة إصلاح الأفراد الموجودين، والذين يعانون من هذا المرض، ونبذ العناصر التي ترفض الامتثال للمنهج التربوي النبوي في هذا الصدد؛ لأن في بقائهم إضعاف للجبهة الداخلية، في وقت أحوج ما تكون فيه الحركة إلى كل ذرة تماسك.
والثاني، البدء في بذر هذا المنهج، في نفوس الأجيال الجديدة المنتسبة إلى الحركة، والتأكيد عليه، وعلى أنه أحد أهم أسباب النصر، في ظل ما تواجهه الأمة بالكامل، وليس الحركة الإسلامية فحسب، من معركة مصير.