صاحب الرسالة بين الأصول والروتين

الرئيسية » بصائر الفكر » صاحب الرسالة بين الأصول والروتين

لعل من عوامل الثقة والأمان في طريق السائرين إلى الله هو وضوح الطريق ومعالم سيره ومسيره، وعلاماته الظاهرة بلا مواربة أو مداهنة أو تجمل.

والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم فى مهد الرسالة علم ذلك من الرجل الصالح ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة لما شرح له النبي ماذا رأى، فقال الرجل الصالح معرفًا هذا الطارق الذي كلم النبي ثم وضح حقيقة الطريق وحجم الأمانة والرسالة، فقال بكلمات معدودة وبسيطة: "يا ليتني فيها جَذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك!
فقال الرسول: أو مخرجي هم؟
قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.

إذن هذا هو الطريق وتلك معالمه وعلى العاملين فيه أن يدركوا ماهيته، ولابد أن لا يتسرب اليأس أو القنوط أو الاستعجال إلى قلوبهم وعقولهم، بل يجب ألا تعطلهم المحن وقسوتها عن العمل، وفي القلب منه السعي للتغيير والتحديث والتطوير.

لابد أن لا يتسرب اليأس أو القنوط أو الاستعجال إلى قلوب الدعاة وعقولهم، بل يجب ألا تعطلهم المحن وقسوتها عن العمل

إن العمل لهذا الدين وهذه الدعوة لا يكون بالتنظير فقط، لكن بالعمل الحقيقي الذي يبني ويجمع  عقولاً تشتت وقلوباً تئن، وأيضاً #العمل الميداني يجب أن يركز على السعي للتغيير وتصحيح مسار الأفكار وتنقيتها من التراب الراكد عليها؛ لأن مقياس النجاح لأية فكرة وبناء هو براعة من يبني ومتانة الرابط الذي يجمعهم، وعلى هذا فإن البناء القائم على الوضوح والشفافية والحرص والصدق هو الأكثر بقاءً وتمددًا.. لماذا؟ لأن عوامل نجاحه موجودة وظاهرة.

إن ورقة ابن نوفل قدم النية الصالحة في دعم صاحب #الرسالة مستقبلًا لكن الوقت لم يسعفه فلقي ربه بعد أن وضح حقيقة الطريق للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وفطن النبي للرسالة وتشبع بفهمها ولم يلن أو يشكو بل أهّل نفسه لتلقيها فهو يعلم مدى ثقلها، فأتعب جسده تقربًا لربه حتى تشققت قدمه من القيام، فهو صاحب رسالة عظيمة.

إن ثبات النبي صاحب الرسالة أبهر أعداءه مما زاد من حجم التضحيات والإغراءات، وهنا وقفة هامة، فإن الترهيب والترغيب سلاح دائم من كل طاغية لصاحب الفكرة، فالبعض يستهويه الترغيب والبعض يؤثر فيه الترهيب، لكن صاحب الرسالة المتعلق بربه يثبت كثبات الجبال؛ لأنه فطن أن حياته كلها محن وابتلاء وجهد ومشقة وعناء، فهو بين تربص الكارهين وتنكيل أعدائه وحسد الباقين، لكنه في كل هذا الجو يستشعر معية الله له حتى بين حيطان الظلم والأسر.

إن صاحب الرسالة مطلوب منه أن يعي حجم الطريق من كلمات ورقة بن نوفل ويعمل بها، ويسعى في سبيلها عاشقًا لدعوته خادمًا لفكرته، في جو من الفهم والعقل.

إن صاحب الرسالة مطالب اليوم دون غيره وغير أي وقت مضى بأن يسخر كل ملكاته ومواهبه وطاقاته لرسالته التي يعشقها، ولدعوته التي يشرف بها، ولفكرته التي يفخر بها

إن صاحب الرسالة الواضحة المعالم، سليمة الفكرة والمنهج، الصافية المنبع، مطالب اليوم دون غيره وغير أي وقت مضى بأن يسخر كل ملكاته ومواهبه وطاقاته لرسالته التي يعشقها، ولدعوته التي يشرف بها، ولفكرته التي يفخر بها، لكن يجب أن تكون كل هذه الأمور في جو من الفهم والسعي للتغيير بعيدًا عن الروتين والعقم الإداري.

إن صاحب الرسالة الأولى صلى الله عليه وسلم أبدع في توصيل رسالته، رغم قسوة المحنة وحجم التربص والكيد له ولأصحابه، لكن الإصرار وعزيمة الرجال كانت تعانق السماء فلم ييأسوا أو يقنطوا.

إن صاحب الرسالة الأول عاش المحن كلها فما بين السخرية ومحاولات الاغتيال وأن يكون مطاردًا وهو الكريم في قومه وصولاً بتركه وطنه الحبيب، عاشها وعمل لرسالته ووضع العاطفة في قلبه لكنها لم تعطله أو تجعله كسولاً. وهذا درس لنا معشر العاملين في الحقل الإسلامي، فالعاطفة مهما عظمت فالرسالة أعظم، والداعية الواعي هو من يسخر عاطفته لرقي دعوته وتقدمها ، ويجعل من هجرته لوطنه انطلاقة تحمل مشاعل الأمل والعمل وفق مراجعات وإعادة ترتيب للأوراق وتقييم لما مضى، وأن يجمع حوله الجميع حبًّا وتواصلاً.

إن صاحب الرسالة الصحيحة له عقل يميز به بين الأفكار الهابطة والسليمة، ولا يتم تنويمه حركيًّا أو دعويًّا باسم الفكرة وبقائها، أو يتعرض للتخدير بدعوى الحفاظ على الكيان، بل يجهر بالحق ويصدع به دون خوف أو مواربة؛ فالدعوة أبقى وأعظم، وفي ذات الوقت لا تتسول رجالها فالاصطفاء رباني لها.

إن صاحب الرسالة معني بالسعي لتغير واقع أمته ومجتمعه وبلا شك دعوته، فهي أولى ففيها نجاته وتميزه ولا ضير على الساعين للريادة طالما فطنوا حقيقة رسالتهم الغراء، وعملوا في سبيلها وجاهدوا لتحقيق ورفعة لوائها.

إن صاحب الرسالة اليوم في خطر عظيم ليس من هول المحن التي يتعرض لها، لكن من تسرب الهموم لعقله وقلبه فأقعدته عن العمل والمسير دون شعور، وأيضا من حجم التحديات فجعلته مستأنسًا يقبل بالروتين أو العطل؛ لأنه لا يريد ضجيجًا أو إزعاجًا فتحول دون قصد منه لقالب في بنيان، لكنه مجروح في رأسه وقد يطال الجرح باقي الجسد إن لم ينتفض ويغير من واقعه وفهمه حسبة لربه فقط وإخلاصًا لتلك الرسالة التي وضع فيها قلبه وعقله وميوله، وكلما تأخر كلما تحول البنيان لشيء يابس لا حراك فيه ولا ينتظر منه استقرار.

إن صاحب الرسالة هو الذي يعي مسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم في التحديث والتطوير، وفهمه لقلوب وعقول أصحابه وتوظيف طاقاتهم نحو ريادة الرسالة وثباتها

إن صاحب الرسالة هو الذي يعي مسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم في التحديث والتطوير، وفهمه لقلوب وعقول أصحابه وتوظيف طاقاتهم نحو ريادة الرسالة وثباتها، وإن الثبات الحقيقي للرسالة ورجالها لن يأتي إلا بصدق التجرد لها والتفاني في سبيلها بكل ما أوتي من بسالة وجلادة وصلابة .

إن فهم صاحب الرسالة لدعوته كاملة يعيق حراك كل معطل يأخذ بما يشاء من حقيقة الرسالة ، ويجعله أصلًا وثابتًا من الدين ويترك الأصول ويجعلها فروعًا؛ لأنه لا يريد مشاكل أو إزعاجًا أو "وجع دماغ"، ولأنه عاجز عن مواكبة العالم السريع والطريق الأسرع المتغيير على مدار اللحظة، لذا فالفهم الكامل للطريق هو طوق النجاة للرسالة وهو السبيل الوحيد لنجاة أصحابها بعد إخلاصهم وطاعتهم لربهم وفهمهم لها فهمًا شاملًا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة الأول.

فهل وصلت الرسالة أم أننا لا نزال في سبات عميق؟

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وباحث مصري الجنسية، مؤلف عدة كتب فى التربية والتنمية "خرابيش - تربويات غائبة- تنمويات". مهتم بقضية الوعي ونهضة الأمة من خلال التربية.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …