#اللغة ذاتها من حيث هي أصوات أولاً ثم رموز وحروف ثانياً، لا روح فيها إلا أن تتصل بأسباب الأحياء، أي تتصل بألسنة تتحدثها وأقلام تخطها، فحياة اللغة في استعمالها. وللغات التي تُرى في عداد الموتى ماتت لأن أهلها إما اندثروا هم أنفُسُهُم، وإما قتلوها إهمالاً وتجاهلاً .
واللغة لها ارتباط قوي بالفكر، فالفكر ليس جسماً يتراءى، لكنه لسان يتحدث وإن بصمت، ومن يفكر لا بد له أن يحادث نفسه بلغة ما، وأن يسبغ على أفكاره من حروف تلك اللغة ما يجعلها مفهومة له، ثم لغيره من أبناء لغته. ومن هنا فأهمية اللغة المباشرة تكمن في هذه الغايات الثلاثة:
1. وسيلة التخاطب والتواصل بين البشر.
2. أداة التعبير عن الذات.
3. وِعاء المَناسِك والشعائر والثقافة لكل أمة.
للغة دور أخطر وأبعد غوراً، من حيث إنها مظهر من مظاهر الغلبة والسيادة، وبالتالي فهي الأداة الأولى لتمزيق وحدة الأمم وتفتيت أواصر الأخوة
لكن للغة دورا أخطر وأبعد غوراً، من حيث إنها مظهر من مظاهر الغلبة والسيادة، وبالتالي فهي الأداة الأولى لتمزيق وحدة الأمم وتفتيت أواصر الأخوة. فقد اتُّخِذ ذُيوع لغة ما وانتشارها دليلا على قوة أبنائها، وعلو شأنهم في الأرض، وذلك مما خلدته صحائف التاريخ ، فما غزا غازٍ ولا استعمر مستعمر إلا وحَرِص إن كُتب له النصر أن يتوج نصره بإعلان لغته اللغة الرسمية للبلاد المستعمَرة، كما فعلت إنجلترا في مصر، وفرنسا في الجزائر، وإيطاليا في ليبيا. فلم يكن بِدْعا أن تتخذ الأمم المحتلة من لغتها الأم سلاحا من أسلحة المقاومة. ومن ثم يتبين بجلاء كيف أن اللغة ليست وسيلة تخاطب فحسب، بل إنها تعبير عن الحضور، والإقرار بالوجود، والمباهاة بالسيادة .
يَقُولُ الرَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "مَا ذَلَّتْ لُغَةُ شَعْبٍ إِلَّا ذُلَّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ".
ومن قال إن اللغة الأصيلة ليست من #الهوية فقد جانبه الصواب، فإن لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ شَعَائِرُهَا وَمَنَاسِكُهَا ومنهاج حياتها ومنظومة قيمها وكافة ما يشكل أنموذجها الخاص وهويتها المتفردة، فالهوية بما تشمله من ثقافة وفكر ومناسك ومنظومات قيمية وحياتية لا تخرج من رحم الفكر إلى رحابة الوجود كما أسلفنا إلا لغةً.
وفي ذلك يقول الرافعي -رحمه الله-: "أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه".
وهكذا فللغة تأْثِير كبير في ترسيخ الولاء وتكريس الانتماء . وفي عالم اليوم من الأمثلة ما يدلل على ذلك، فالصين -مثلا- التي غزت العالم أجمع بمنتجاتها، وصارت قوة اقتصادية لا يستهان بها، هي من أشد الشعوب إعزازا للغتها، بحيث صار الدارسون يقبلون على دراستها، وكذا حال اللغات التي وصلت للعالمية. وَمَنْ تتَبع أَحوال المسافرين ثَبَتَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ: فالمغتربون للدراسة أو العمل، تؤلف بينهم اللغة، وتجمع بينهم أواصر اللسان.
ولئن كانت للغة كل هذه المكانة من حيث كونها الأم المحتضنة للناطقين بها، فما بالكم حين تسع تلك اللغة أجلَّ كلام على الإطلاق، وأرفعَ بلاغة بلا مراء، وأكرم كتاب سطرته حروفها الغراء؟! لا ريب أن لمثل تلك اللغة شأناً عظيماً إذ وسعت آي الله تعالى لفظا وغاية، ولا ريب أنها لا تخفى على أحد بعد إذ ذكرنا هذا التشريف. إن اللغة العربية هي أصل الجمال وواسطة العِقد بين اللغات. وليست مكانة العربية أو كرامتها مما يُختلف فيه، أو يحتاج المقام لمزيد بسط فيه. يكفي أن نستشهد بمقولة الإمام علي رضي الله عنه: "إن العربية حُفظت بحفظ الله القرآنَ، فلولا القرآن ما كانت عربية".
اللغة العربية تعتبر كيانَا حاضنًا لهذا الدين شريعة ومنهاجًا، ولأجل ذلك كانت خصوصيتها وكرامتها من حيث إنها لغة رسالية لا تواصلية فحسب
لأجل ذلك كانت العربية كيانَا حاضنًا لهذا الدين شريعة ومنهاجًا، ولأجل ذلك كانت خصوصيتها وكرامتها من حيث إنها لغة رسالية لا تواصلية فحسب، فالقرآن لا يتعبد بتلاوته إلا بالعربية، ولا يجزئ أي لسان آخر ولو وافق نفس المعاني. بل إن تعلمها فرض على المسلم، كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مِنَ الدِّينِ، وَمَعْرِفَتُهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ؛ فَإِنَّ فَهْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْضٌ، وَلَا يُفْهَمُ إِلَّا بِفَهْمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ (أي على كل أحد، مثل تعلم الفاتحة التي لا تصح الصلاة إلا بها بالعربية)".
وحين ذكرت العربية في القرآن الكريم، لم تذكر على أنها لغة، بل "لسان"، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195]. فاللسان أعلى من اللغة، إذ اللغة هي مجموع الأصوات كما ذكرنا في التعريف، لكن اللسان هو الملكة البيانية والتمكن من أداة التعبير بفصاحة. ولذلك ليس كل مدرس للغة العربية صاحب لسان عربي، كما ليس كل ناقد أو مختص في علوم الشعر قادر على تأليف القصائد .
الأمة العزيزة ذات الهوية الكريمة هي التي تعتز بلغتها، وتحرص على استقلالها اللغوي كما تحرص على استقلالها العسكري والاقتصادي سواء بسواء
وإن من الأسباب الرئيسية لبعد المسلمين عن كتاب ربهم وعدم إحسان تلقي رسائله والعمل بهديه، هو إهمال الاهتمام بتقويم اللسان العربي والتمكن منه، ففسدت السليقة وطغى اللحن وذاعت العامية. يقول الرافعي –رحمه الله-: "وما فرط المسلمون في آداب هذا القرآن الكريم إلا منذ فرطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كَلِمَه، ولا يدركون حِكَمَه، فلا يقرؤون من هذا الكتاب إلا أحرفًا، ولا ينطقون إلا أصواتًا، وتراهم يرعونه آذانهم، ولا يحضرونه أذهانهم، وهم بعدُ لا يتناولون معاني كلام الله إلا من كلام الناس".
إن #الأمة العزيزة ذات الهوية الكريمة هي التي تعتز بلغتها، وتحرص على استقلالها اللغوي كما تحرص على استقلالها العسكري والاقتصادي سواء بسواء، والأمة الذليلة في نفسها هي من تفرط في لغتها حتى تصبح أجنبية عنها وهي منسوبة إليها.
فلتبق العامية لهجة حديث دارج، لكن لتتربع اللغة العربية الفصحى على عرش اللغة الأم، تتقنها الألسن دون لَحْن، وتجري بها الأقلام دون خطأ، ويفهمها الكل دون تعقيد، ويعتز بها قومها دون استخفاف، ويحبها أبناؤها كحبِّهم أمَّهم أو أشدَّ حبا. إنها لغتنا العربية، ووالله إنها للغة كريمة، وسعت كتاب رب العالمين لفظا وغاية، وما ضاقت عن آياته وعِظاته، أفنضيق نحن بها ؟!