من أبلغ المواعظ التي وفقني الله للاطلاع عليها، موعظة عطاء بن رباح لسليمان بن عبد الملك: "اتَّقِ الله في نفْسِكَ يا أمير المؤمنين، واعْلَم أنَّكَ خُلِقْت وحْدك، وتموت وحْدك، وتبعث وحدك، وتُحْشرُ وحدك، وتُحاسَبُ وحْدك، ولا واللهِ ما معك مِمَّن ترى أحدٌ".
أيها الباحث عن الأنس في الصحبة، والتذكرة على الفيسبوك، والنجوى على الهاتف مآلك وحدك ليس فقط يوم تقوم لرب العالمين، بل مآلك وحدك كل يوم، حين تغلق المتصفح والجوال، وتفارق الأنس والصحبة، وتخلو لقلبك.
مآلك دائماً وحتماً وحدك، مهما شاركوك الهم وآنسوك بالنجوى وطمأنوك بالتذكرة.. مآلك في قلبك.. أنك وحدك وهذا القلب لا يقوم أمره ولا يستقر ولا يرضى ولا يطمئن إلا أن يبلغ وطنه. ووطن القلب هو مبلغ "إيمانه"، وليس "الإيمان" مطلقاً.
تأمل في حقيقة إيمانك ومدى استغنائك بها حقاً، تأمل في دعائك وهل تدعو دعاء من يعلم ويوقن أن خالقه يسمعه ويراه ويعلم ذات صدره وأنه لسوف يعطيه فيرضى.. أم تدعو دعاء من "يأخذ بالأسباب" قبل أن يشاور هذا ويستنصح ذاك؟ لا غبار على الصحبة والأنس بالأخوة في الله، ولا مراء في التذكرة والعوامل الخارجية للثبات.. لكن مهلا.. كيف وطنك الحقيقي؟ وهل حول كعبة إيمانك أصنام خفية لا تنتبه لها؟ هل حقا نستشعر الاستغناء بالله؟ أتأنس قلوبنا فيما ينزل بها من غم بالله وحده، أم لا بد دائماً من "وسائل مساعدة"؟
تأمل في دعائك وهل تدعو دعاء من يوقن أن خالقه يسمعه ويراه ويعلم ذات صدره وأنه لسوف يعطيه فيرضى.. أم تدعو دعاء من "يأخذ بالأسباب" قبل أن يشاور هذا ويستنصح ذاك
هذا وإننا كثيرا ما نعلّق آمالنا بتحسين أنفسنا وإصلاحها على انتظار "الصحبة المعينة"، وحين نقطع شوطاً في ذلك نظل بحاجة لتلك الصحبة لتثبتنا أو تشدنا من جديد عندما نبعُد. والصحبة الصالحة محمودة لا ريب، لكن اشتراطها على هذه الصورة وانتظارها بهذا التعلق هو الذي قد ينقلب تعجيزا وتسويفا، لأننا نحصرها في صورة واحدة لازمة، في أشخاص، والأشخاص دائما في تقلب وانشغال. ومهما دام التعاهد والتواصل بينهم لن يستغني أحد عن ضرورة قيامه بأمر نفسه بنفسه، فلا أحد يقضي معك من الوقت والصحبة كما نفسك .
ما نحتاجه حقيقة لنرتقي بجودة حياتنا ومعادن نفوسنا ليس انتظار صحبة تهبط من السماء، وإنما صناعة الصحبة بوعي مما نحيط أنفسنا به، وغربلة ما نصحب بجدية
ما نحتاجه حقيقة لنرتقي بجودة حياتنا ومعادن نفوسنا ليس انتظار صحبة تهبط من السماء، وإنما صناعة الصحبة بوعي مما نحيط أنفسنا به، وغربلة ما نصحب بجدية. وذلك أيسر ما يكون في عالم اليوم حيث تتحكم في إعدادات كل ما حولك من تطبيقات ووسائل تواصل، وتختار ما يصل إليك وما تحجبه عنك. لكننا نستسلم لكسل التلقي السلبي على عواقبه الوخيمة، ونستثقل جدية الصناعة الواعية لمدخلات حواسنا، ثم نلقي باللوم على تلك الصحبة الصالحة المنتظرة التي حُرمنا منها!
يقولون إن المجانسة بالمجالسة وإن الصاحب ساحب. وذلك ينطبق على مفهوم الصحبة بوجه عام، وهو كل شيء تصحبه، وكل جو تحيط به نفسك.
• تريد الهمة والعزم واتّقاد الروح؟ عليك بالسير والتراجم لمختلف مشاعل الإنسانية.
• ترجو رقة القلب وهزّة الوجدان؟ عليك بسماع الرقائق ومقاطع التذكرة والقراءة الدورية من كنوز تراثنا مما كتب في التزكية.
• تتمنّى الذائقة الأدبية والبيان الرائق؟ انقطع لمطالعة عيون الأدب العربي من الدر المنثور والشعر المنظوم.
• تطمح التمكن من اللسان العربي أو الأجنبي؟ اغمس حواسك في معايشته سماعا ومحاكاة وقراءة.
• تتطلع للأفكار والإلهام والوحي؟ اطلب صحبة الطبيعة وأحضان الأجواء الطلقة وأطلق العنان للتفكر في حالك والتأمل في دواخل نفسك.
• ترجو أن تتخلق بأخلاق القرآن؟ تعلّق بحبائل الدعاء واجعل أورادك منه محور يومك وثوابته واشغل حواسّك كافة به تلاوة ونظرا واستماعا.
انظر إلى أي شيء تمنّي نفسك أن تكون عليه أو تتمكن منه، فاصحب أدواته ووسائله، تأخذك إليه مباشرة. والسر كل السر في كلمة الصحبة:
الصحبة = أدومها وإن قل
الصحبة = الأجواء المحيطة بك
الصحبة = الصبر والانقطاع لها حتى تثمر.
اذكر دائمًا أنك مهما حرّضت المؤمنين، فلا تُكَلّف على الحقيقة إلا نفسك. فلا تكن شمعة تحترق لغيرها، وإنما كن سراجًا وهّاجًا منيرًا في نفسه ولنفسه، ثم لغيره تبعًا .
"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" [رواه مسلم].