لا تكاد تسـير المئة خطوة أو المئتين حتى تفجؤك يدٌ تمتد في وجهك، تقول لك: ((من مال الله...)) قد تكون يد شيخ مسن أفنى الدهر ظهره فقوسها أو رجليه فأقعدها، وقد تكون يد طفلٍ صغير برفقة أمه، وقد تكون يد فتاة في مقتبل عمرها.
ليس ذلك في مقديشو ولا في جنوب أفريقيا، بل في بلاد تحلب السمن والعسل، إنها (بلاد العروبة والإسلام).
والمتسولون الذين رأيتهم هم مسلمون مثلنا، نفس الدين والمذهب، وربما نفس الأحلام، كانوا في مصافنا ثم نزلوا عنا درجة، ليس لأننا أفضل منهم، بل لأن فينا من دفعهم بيديه إلى الأسفل.
فقر هؤلاء كان بجنايتنا وببخلنا عليهم، إذ إن لهم في أموالنا حقوق ثابتة، أوجبها الدين الحنيف، والخلق الإنساني.
لم يضيعوا ماء وجوههم لأنهم سفلى ومنبوذون، بل لأن فاقةً مرةً وضرورةً بليغة اجتاحت حياتهم فملأتها ألماً وأسىً ولا تدري ربما كان فيهم عزيز النفس، طيب القلب!
إنّ في هؤلاء الذين يمدون أياديهم على مشارف الطرقات وأبواب المساجد: الفتاة الشريفة، التي ألجأتها الحاجة إلى إحدى طريقين كلٌّ منهما بائس: طريق التسوّل وطريق الرذيلة، فاختارت أن تستشفق الناس وتسألهم بالله أن يعطوها شيئاً من مال الله، على أن تغويهم بجسدها وتنهب ما في جيوبهم وهم مرغمون، أرغمتهم شهواتهم.
كانت تعرف أن في طريق (الحرام) ستركع تحت قدميها جباهٌ عريضة وستنثر على جسدها أموال كثيرة، كانت تعرف أن أناسا أثرياء لكنهم أشحّة جشعون، سيبذلون لها الأحمر والأبيض، ليس من أجلها بل من أجل جنون أهوائهم، لكن خوفها من الله تعالى جنّبها أشقى زلّة قدمٍ في حياتها.
مشت في طريق التسول مرغمة، وعلمت أن في الناس من سيلاحقها بنظرات مرتابة، وفيهم من قد يعرفها فلفعت وجهها بالخمار لتقي نفسها تلك السهام، سهام الريبة وسهام العار.
لا تقوى تلك الفتاة على تحمل سهم واحد من تلك السهام، لأن في كل جزء من قلبها الصغير جرحاً ينزف أو جرحاً يندمل
لا تقوى تلك الفتاة على تحمل سهم واحد من تلك السهام، لأن في كل جزء من قلبها الصغير جرحاً ينزف أو جرحاً يندمل.
أما تلك المرأة التي أدرجت صغيرها أمامها يسأل المارّة بيديه الصغيرتين من مال الله، وهي تسمع من يقول له ((روح يا عمو...))، ومن يقول له ((صار عدكن قصور من الشحاده...))، ومن يقول له: (( أخدتو الشحادة مهنة...))، وفيهم من يعطيه جزء من شعرة البعير.
لم يسأل أحد نفسـه لماذا دفعت تلك المرأة بولدها يسأل عوضاً عنها، رغم أنها موجودةٌ بقربه!
أرادت هذه المرأة أن تقول للناس: سامحوني إنني مضطرة، وإنّ ولدي الذي يستعطفكم هو حجتي فيما أقول، اسألوه أين أبوه؟
الرجل الذي هو واحد منكم، أين هو الآن؟ الرجل الذي كلّف بالإنفاق علينا مرتين، مرةً لأن الإسلام _وهو مسلم_ كلفه بذلك، ومرةً لأن الرجولة _وهو رجل_ تقتضي منه أن يتكفل بزوجته وأولاده.
لم أُخلق رجلاً. ولو خلقت لما رأيتموني هنا أطلب العون منكم وأدفع بولدي إليكم!
ألم تسألوا أنفسكم: هل يهون على المرأة أياً كانت أن تدفع بصغيرها إلى طريق التسول؟
ألم تسألوا أنفسكم: ترى أي جواب تواجه به الأم ولدها عندما يسألها غداً: لماذا علمتني التسول، أين أحلامي؟
أيها الناس إن كنت ساقطةً في أعينكم فما سقطتي إلا بسببكم أنتم!
أيها الناس إن كنتم تشيحون عني بوجوهكم مخافة أن يصيبكم مني جربَ التسول فاعلموا أنّ تلك اللعنة واقعة بكم وبأغنيائكم.
وإن كان أغنياؤكم يتبرمون بي وينفضون ما علق على (ثيابهم المنعّمة) من غبار يدي القذرة، فانتظروا مصيراً يحيق بكم أو بأولادكم كمصيري هذا، فالذي ابتلاني بهذا ليس عزيزٌ عليه أن يبتليكم به.
وصلت أصواتنا إلى (برلماناتكم) على أنها أصوات هجينة تخدش من مجتمعكم المتحضر، فطالبتم بسحقنا، ولم تفكروا في حاجاتنا وسد خلتنا.
إنكم تنفقون كل يوم كثير مال على متاعكم وشهواتكم و(موضتكم) و(ماركاتكم) وأطعمتكم وحفلاتكم، وتغصون في بذل النزر اليسير اليسير لأمثالي.