لن نستطيع مهما حاولنا أن نلملم ذكريات رابعة الصمود في أوراق محدودة، فرابعة لم تكن حدثا منفردا يمكن أن يدون، إنما كانت حياة كاملة، ومجتمعا من الجنة على الأرض واقعا. رابعة لم تكن قطعة من الأرض التأم فيها شمل الأحرار من ربوع مصر ليهتفوا هتافا واحدا، ثم تختلط دماءهم وأحلامهم بغير جريرة إلا أن يقولوا ربنا الله.
رابعة لا يمكن حصر لياليها القائمة ولا أيامها الصائمة، ولا وجوهها التي اكتسبت لوناً واحداً، ولا قلوبها التي لم تجتمع على بقعة واحدة منذ عهود الاستبداد والاستعباد، ولم تتخيلها مدينة أفلاطون الفاضلة، فرابعة حملت في رحمها الفضل كله، والطهر كله، والأخوة كلها، والحب كله، والأمان كله، ومن بين أحداثها أرصد يوماً واحداً، يوماً مشهوداً، يوم مقتل السجد الركوع في مجزرة الحرس الجمهوري، أرصدها بعين واحدة، ومن جانب ضئيل جدا، فكما نوهت لن أستطيع أن أرصدها كاملة، فلكل منا فيها حكاية في كل لحظة تختلف عن الأخرى.
نسائم رمضان تطل علينا ومظاهره رغم الانقلاب الغاشم على طول الطريق إلى حيث إشارة رابعة، فوانيس رمضان، وزينة رمضان، وبشائر هلال الخير، ووجوه مستبشرة بنصر قريب وحرارة شمس تلهب الوجوه المتحفزة بالثبات بسمرة رائعة تحول كل الطرق المؤدية إلى مدينتنا الفاضلة إلى رموز حرية، سيارات من أي مكان في القاهرة إلى هناك.
أصبحنا معروفين لدى السائقين، من بعيد ينادوننا: رابعة، رابعة.
أصبحنا يعرف بعضنا البعض، تطرب قلوبنا حين نلتقي بوجوه لم نلتقيها من قبل، لكنها أخذت ملامح رابعة، أصبحت ملامحنا واحدة.
هل هي كذلك اليوم فقط؟ أم هي اصطبغت بتلك الصبغة من يوم جمعنا الميدان؟ لست أدري.
هذا ابني،
ملامحه..
نفس الهيئة،
نفس التصرفات،
نفس الهتاف،
نفس لمعة العينين،
نفس الحماس،
نفس التصميم،
نفس الهدف،
نفس القوة،
الاسم وحده يختلف.. ووجهة المجيء.
جمعت رابعة من كل اللهجات ومن كل أرض في مصر، قرى ومدن، شرق وغرب، شمال البلاد وجنوبها.
لا تشعر أبدًا أنك غريب..
لا أحد هنا غريب.
في رمسيس تجتمع الوجوه كلها، وتحملنا السيارات إلى حيث هناك، تكتنف الطمأنينة قلبك مجرد أن تكون قريبًا منهم.
أخطأ السائق وبدلًا من أن يذهب بنا إلى مدخل رابعة من ناحية طيبة مول، ذهب إلى مدخل الحرس الجمهوري حيث اعْتصام إخواننا هناك، وحيث كان الرئيس مرسي محبوسا داخل دار الحرس الجمهوري، قضيت هناك بعض الوقت لأجد رجالًا وشبابًا وكأنهم من جنس آخر غير البشر.
كان عالمًا مختلف عن عالم رابعة؛ المكان مفتوح ومتصل بأفراد الحراسة ضباط وجنود على أبواب نادي الحرس الجمهوري، الشباب يهتفون كي يُسمعوا الرئيس أصواتهم، ينادون الجنود بخطاب ودي:
يا جنود مصر، إن الرئيس أخبرنا عنكم خيرًا.
توزيع التمور عليهم والورود بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك، مسيرة لآلاف الأخوات من ميدان رابعة إلى ميدان الحرس الجمهوري ثم العودة.
عدت مع المسيرة العائدة إلى الميدان الأم.. رابعة.
أدينا صلاة الفجر وإذا بابني يقول لي: دقائق وأعود. وهو يجري بأقصى سرعة، لحظات وغاب عن عيني، ثم انْقلب الميدان بأخبار أن إخواننا في الحرس الجمهوري تم إطلاق النار عليهم وهم في الركعة الثانية من صلاة الفجر؛ وإذا بي أكتشف أن ابني الذي قال لي دقائق وأعود، قد قفز على أول سيارة إسعاف متجهة إلى المحاصرين هناك.
ابني وكل أبنائي.. فكلهم هو، كلهم نفس التصرف، حملتهم أحلامهم بالمستقبل إلى مستقبل أبعد، ومكانة أعلى، حملتهم أحلامهم في غد أفضل إلى أن يكون ذلك الغد في أعلى عليين، أصروا جميعًا في ذات اللحظة أن يكون رفيقهم سيد الشهداء حمزة..
ثارت الثائرة وتجمعنا حول المنصة، بينما سيارات الإسعاف تأتي بالشهداء والمصابين، ثم تذهب بهم إلى المستشفيات المجاورة وذلك حتى وقت الظهيرة.
بحثت عن ابني واتصلت فإذا به في مستشفى التأمين مصابًا في ساقه برصاصة، هرولت إلى هناك وفي قلبي آلام كل أمهات الوطن.
كل صور الشهداء من الشباب، كل صور المعتقلين، كل صور المصابين، كل عين أم موجوعة وتخفي ما بها لتظهر قوة أمام أبنائها كي يكملوا المسيرة بغير جزع.
تتراءى أمام عيني عشرات الصور، كانت كل خطوة بألف خطوة.
وكل دقيقة بألف سنة، حين وصولنا إلى المستشفى قالوا إنه في الدور الرابع، هوّني عليك؛ فالشهداء والإصابات الخطيرة في الدور الخامس، يا لهف قلبي عليكم يا أحرار الوطن!
منهم من تكاد لا تُرى ملامحه من شدة الإصابات..
كلهم ابن لك،
كلهم لك إخوان،
كلهم أطهار الوطن الموجوع.
أصعد السلم، وأسابق الزمن؛ كي أراه فإذا به أصلب مني
يطمئنني، ويعرفني على زملائه وإخوانه المصابين: عبد الناصر من الفيوم، زميل غرفة، مصاب في صدره بخرطوش يملؤه، لا يستطيع السير إلا منحنيًا، في العشرين من عمره، داعبته، لِمَ يا عبد الناصر سمَّوْك بهذا الاسم؟ ابْتسم وقال: هو أسوأ ما أملكه، لكنني أحاول تطهيره، لم يكن أقرباؤه معه، لكن ولم الأقرباء!؟ ومن هنا هم آباؤه وأمهاته وإخوانه، قلت له تعالَ معنا نعالجك خارج هذه المستشفى، فهنا خطر عليكم جميعًا يا بني، قال: لا، بالله عليكم اذهبوا بي أعالج في الميدان، لن أبقى هنا.
عبد الرحمن، لم أكد أعرف ملامحه ولم أستطع تحديد سنه بالضبط أو بالتقريب، فليس في ملامحه شيء ظاهر، كله عبارة عن كتلة نازفة من أثر الخرطوش من مسافة قريبة.
طبيب واحد وألف مصاب، الطبيب ينظر الحالة ثم يقول: لا شيء به؛ فحملته معي كما حملت آلام بلادي في قلبي، وعدت به لعلاجه.
في الطريق، كانوا يترقبون، المصاب يُختطف من الطريق، ويُلقى به في أي معتقل بتهمة الإصابة، ثم لا علاج.
من طبيب لمستشفى، لمهرب من الشرطة المترقبة، لرعب على الكمائن المقامة من الجيش الذي خان.
مر اليوم، ولم تمر الذكرى، ولن تمر؛ حتى نداوي جرحك يا وطني، لم تكن تلك النهاية ولن تكون، كما لم يكن فض رابعة النهاية ولم يكون، كما لم تكن حلب النهاية ولن تكون، ستنهض الأرواح القابعة في سجون الوطن الكبير، سينبت من رحم تلك المعتقلات جيل جديد، جيل الحرية التي يعده الله على عينه، جيل اقتحم الموت بلا خوف، كسر جدار الاستبداد بلا وهن، جيل أحسبه ولد الآن ويتلقي حظه في التربية خلف الجدران الموصدة، لن نتركك يا بلادنا المترامية من المحيط إلى الخليج.
أتدرين يا بلادي،
حتى لو غرست في صدورنا ألف خنجر؛
فسوف نحيلها لألف وتد يربطنا بك.
فهل تدركين يا بلادي!؟
هل تدركين!؟