ليس عابراً تشديد الأديان على برها، ولست أنوي الحديث عن ذلك، سأسرد عدة مواقف غريبة متناقضة ومثيرة وغريبة، وللقارئ العزيز ما شاء من استثمار فسحة التأمل!
الوظيفة المستحيلة:
في أحد أجمل مقاطع الفيديو التي تناقلتها جماهير التواصل الاجتماعي كان مجموعة من المتقدمين لإحدى الوظائف يجرون مقابلات عبر الإنترنت، يملي عليهم المدير المهام والصلاحيات والمسؤوليات: العمل 24 ساعة، بدون إجازات، المهام غير محددة والمسمى الوظيفي كذلك.
قد يطلب منك أن تكون نجاراً، حداداً، كهربائياً، سباكاً، سائقاً، طباخاً، وقد تجتمع تلك المهام في وقت واحد، ويطلبُ منك أن تكون "مسبّع الصنايع" كما يطلق الناس على صاحب الكارات المجتمعة في آن. الأدهى أنه حين طلب منهم توقع المقابل، توقعوا مبالغ باهظة، لكنه قال: الوظيفة بلا مقابل!
استنكر المتقدمون جميعاً، فبعضهم عبَس، آخرون اعترضوا، إحداهن ضحكت هازئة، ورفضوا الأمر جميعاً، فأخبرهم المدير بأن #الأم تفعل ذلك كله وأكثر بدون أي مقابل، وأن هذا التصرف والإعلان ليس سوى مساهمة عاجز في شكر الأمّ والاعتراف بفضلها.
أمهات بديلات:
لا تزال منظمة قرى الأطفال العالمية الدولية، التي تهتم برعاية وتربية وتنشئة الأطفال بلا معيل، تنشئ في كل يوم قرية جديدة للأطفال (SOS) في بلد من بلدان العالم، بالأمس في السودان، قبلها في غزة، غداً في الأردن... وتدور العجلة!
وهي لفتة إنسانية نبيلة وجميلة من المنظمة تنفيذ مثل هذا المشروع الذي أسسه الألماني هيرمان جومينر، معتمداً على نظرية الأم البديلة، حيث تجمع كل قرية مجموعة من البيوت وتوظفُ أمَاً بديلة (وليس معلمة) تحتضن مجموعة من الأطفال الأيتام وفاقدي المعيل، ليكونوا إخوةً (وليسوا زملاءً) بينما يمثل رئيس القرية دور (الأب) للجميع داخل القرية، وخلال إجازة الأم تقوم خالةُ بديلة بدورها ليشعر الأطفال بحياة طبيعية مع أم وأب وعائلة.
يحيا الأطفال في تلك القرى حياة طبيعية بالفعل، يدرسون ويتعلمون في الجامعات ويفصل بين الإناث والذكور بعد البلوغ، وحين بلوغ السن المناسبة يتزوج الذكور وقد تخيّر الفتيات بين الخروج إلى الحياة خارج القرية، الزواج، أو أداء دور الأم أو الخالة في القرية.
أمّي وأمّك:
قبل سنوات انتشرت على مواقع التواصل مقاطع فيديو ساخرة "وظريفة" يكشف الشباب فيها نقطة حساسة في العلاقات بأمهاتهم أمام الكاميرا، حين يفاجئونهن بإلقاء كلمة عاطفية مفاجئة على مسامعهنّ، فيتصل الشاب أو الصبية بأمه ويقول لها: "أحبك" بطريقته!
يبدو الأمر غريباً على مجتمع ليس تبادل الكلمات العاطفية وقول "أحبك" بالأمر السهل لديه، فلا يتبادلها العرب غالباً إلا في مناسبات خاصة وظروف استثنائية، وقد كانت ردود أغلب الأمهات تؤكد ذلك، منهن من كانت ترد: "وأنا بحبك، ما في أغلى منك، وأنت نور عيني..." وقليلات كنّ يفضحن آخر مشاغبات أبنائهن دون أن يدرين بأن المكالمة عامة، أما أغلب الأمهات فرددن بسؤال: "قول/ قولي شو بدك؟ ما مصلحتك من كلمة بحبك المفاجئة؟" أو تقول بما معناه: "أعرف أن طلباً ثقيلاً وصعباً سيأتي بعد هذه الكلمة؛ فقد تعودت".
نحنُ نحب أمهاتنا جداً، إلا أننا لا نردد الكلمات العاطفية كثيراً، بل نحب بعضاً وكل يحب الآخر بطريقته
ونضحك؛ فكلنا هذا الشاب وهذه الصبية غالباً، نحنُ نحب أمهاتنا جداً، إلا أننا لا نردد الكلمات العاطفية كثيراً، بل نحب بعضاً وكل يحب الآخر بطريقته، الأم تعبر عن حبّها لابنها بالقسوة الرشيدة، هو يعبر عن حبه بفعل ما يحلو له بدون إخبارها؛ لأنه لا يعجبها مثلاً، وهكذا يستمر الحب والبرّ في أغلب المجتمعات والأسر العربية المسلمة!
البعض يعقّ صحيح، لا أنكر، لكن هذا ليس ظاهرة، بل طارئ وحسب، يقابل المجتمع العربي فاعله بالنبذ والتوبيخ والتقريع، فحتى التقاليد العربية لا تسمح بإهانة الأم أو أي من الوالدين مطلقاً، وليس كذباً ولا مبالغة كل السخاء العاطفي في القصائد والقصص والاقتباسات والأغنيات التي تتغنى بالأم، إلا أننا شعوب عاطفية تستحي من إظهار ذلك إلا في حالات خاصة!
تحتدّ النقاشات، وتعلو الأصوات في البيوت العربية، بين أم وابن أو ابن ووالد، لكن النفوس تصفو أخيراً إكراماً للأم والأب والاعتذارات تنهال اعترافا بفضلهما، والحب يغدق طمعاً بهناء رضاهما ودعائهما وضمتهما الشافية!
أمهات حسب الظروف:
بالكاد تجد دراما أجنبية تخلو من مشهد عاطفي بين أم أو أب وابن أو ابنة، يتبادلان حين يلتقيان، حين يتودعان، وكلما تحدثا بالهاتف، الكلمة العاطفية التي لا نرددها: "I love You - seni seviyorum - Je t'aime - ich liebe dich
الأمّ في الدول الأجنبية تفقد حقها – قانونياً – في الوصاية على طفلها قبل البلوغ حتى؛ لأن الدولة تقر ذلك وفق تشريعاتها ورؤى المستقبل؛ فهذا - برأيهم - يمنحه الحرية ليكون ملك نفسه فيبدع ويفعل الكثير، ويقدم أفضل ما لديه
لكن الأمّ تفقد حقها – قانونياً – في الوصاية على طفلها قبل البلوغ حتى؛ لأن الدولة تقر ذلك وفق تشريعاتها ورؤى المستقبل؛ فهذا - برأيهم - يمنحه الحرية ليكون ملك نفسه فيبدع ويفعل الكثير، ويقدم أفضل ما لديه، لكن... بإمكان الطفل (الذي تبادلت معه قول "أحبك" أكثر من مليون مرة) أن يؤذيها إن تعدّت أو تجاوزت حدّها.
في إيرلندا، أرسل والد لابنته ذات الأعوام الست بطاقة معايدة في يوم الحبّ، فطارت من الفرح وحلقت بالبطاقة كفراشة منتشية، سعد الشاب العربي الذي يقيم مع هذه الأسرة بشكل مؤقت خلال ابتعاثه، فكر بصوت مرتفع: لا بد أن الظروف منعته من القدوم ليرسل والدها بطاقة لطفلته، شاركوه تفكيره: الحقيقة أن الانشغال مستمر منذ ثلاثة أعوام مضت لم ير طفلته خلالها!
ينفصل الوالدان عن طفلتهما لأجل العمل، وترسل إليهما بطاقات في يوم الأم ويوم الأب، ويرسلان إليها بطاقات في يوم الحب ويوم الطفل، ويرسلان المال لجدتها التي تقوم على رعايتها، وترسل لهما القبلات وكلمة: أحبكما... كلما تفرغوا لمكالمتها!
هدوء غريب بل برود في بعض العلاقات العائلية، وكلمات حبّ متبادلة تخلو من الإحساس الصادق، وبعد مرور الزمن أبواب وصل تغلق ودروب تنسى إلى حيث يقطن الوالدان... لكن الهدوء والصمت سببه خوف من الحكومة وأحكامها القطعية إن اشتكى الابن، أو أهملت الأمّ. أن تسحب حضانة الأطفال وتحرم والديهم منهم.
الغريب هو أنك لا تزال حتى اليوم تجد بعض المدونين العرب يتحدثون عن الفرق بين الأم العربية، والأجنبية بطريقة تقلل من شأن الأمهات العربيات والأبناء العرب
وهناك استثناءات بلا شك، وبرّ يعد طفرة في مجتمع يعدّ الأسرة عائقاً في طريق تقدم الفرد، ويمنحه حرية العيش والتنقل والاستقلالية، لكن الغريب هو أنك لا تزال حتى اليوم تجد بعض المدونين العرب يتحدثون عن الفرق بين الأم العربية، والأجنبية بطريقة تقلل من شأن الأمهات العربيات والأبناء العرب!
أما أنا... فأفكر في أن العالم الذي يعيش حياة صناعية بحتة، مضطر في زحمة مشاغله واهتماماته، لتخصيص يوم للحب، وآخر للأم، وثالث للأب... وغيرهم.... حتى لا تداس هذه القيم وتمّحي العلاقات تماما في ظل الحياة الجامدة التي تعودوا عليها.
وأفكر أيضاً بأن الحب ما وقر في القلب، لا ما تبادلته الألسن!