من منا لم يسمع بـ (ابن سيرين)؟
كان ابنُ سيرين من علماء التابعين، المشهورين بالفقه والورع، وشهرته بين الناس أتت من نسبة تفسير الأحلام إليه، فهو قد اشتُهر بذلك، حتى صار ينسب إليه ما قاله وما لم يقله في تفسير الأحلام.
ابن سيرين هذا قضى آخر عمره محبوسًا بسبب دين ركبه، فرفع أصحاب الدين أمره إلى القضاء فحُبس.
وكان سبب وقوعه في الدين أنه اشترى زيتًا بأربعين ألف درهم، فوجد في أحد أوعيته فأرة، فظنّ أن الفأرة كانت في المعصرة، وأنها نجّست الزيت كله، فصبَّ كلَّ الزيت، ولم يرض أن يبيع منه شيئًا، تورُّعًا.
لاحظوا: قَبِلَ خسارة ماله كلِّه، ولم يرض لنفسه أن يغشَّ الناس ويبيعهم ما يظنه حرامًا لنجاسته.
ولم يكن هذا الورع مستغربًا من ابن سيرين، فقد روي عن بكر المزني أنه قال: من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا، فلينظر إلى محمد بن سيرين.
والآن انظروا الشيء العجيب الآخر، غير ورع ابن سيرين:
كان ابن سيرين يذكر عن سبب الابتلاء الذي أصابه أنه عيَّر رجلًا قبل ثلاثين سنة بالفقر، وكان يقول: أحسبني عوقبت به...
ياه ... ثلاثون سنة مرت عليه وهو متذكرٌ أنه عيَّر فلانًا بالفقر، وهو ينتظر العقوبة على هذا الذنب.
عندما سمع الزاهد أبو سليمان الداراني هذا علَّقّ عليه فقال:
قلَّت ذنوب القوم، فعرفوا من أين أُتوا، وكثرت ذنوبنا، فلم ندر من أين نؤتى.
الواحد منَّا إذا ابتُلي لا يدري ما هو الذنب الذي جرَّ عليه البلاء، لكثرة ذنوبنا، أما هم، فكانت ذنوبهم معدودة، يعرفونها ويدركون أنهم سيحاسبون عليها
نعم، الواحد منَّا إذا ابتُلي لا يدري ما هو الذنب الذي جرَّ عليه البلاء، لكثرة ذنوبنا، أما هم، فكانت ذنوبهم معدودة، يعرفونها ويدركون أنهم سيحاسبون عليها!!
ولا يظنن ظانٌّ أن ما حدث مع ابن سيرين كان لأن الله لا يحبه، بل على العكس، فإن الله إذا أحب عبدًا طهره من ذنوبه في الدنيا قبل الآخرة، وفي الحديث الحسن الذي رواه أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).
نعم: قلَّت ذنوب القوم، فعرفوا من أين أُتوا.
ولابن سيرين مواقف أخرى جديرة بالتأمل فيها لاقتباس العبرة:
فقد روي عنه أنه لما حُبس، قَالَ له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، فإذا أصبحت فتعال، إنها فرصة ذهبية لأي سجين، ولكن هل قَبَلَ ابن سيرين أن يستفيد من هذه الفرصة؟؟
عندما عرض السجان على ابن سيرين هذا العرض نظر إليه بعين الورع، فوجد أن السجان بفعله هذا يخون الأمانة الموكلة إليه، وابن سيرين ليس مستعدًّا ليساعده على خيانة الأمانة، حتى لو كانت الفائدة التي سيجنيها من ذلك قضاءه الليل يوميًّا بين أهله بدل السجن، ولذلك قال للسجان: لا والله، لا أعينك على خيانة السلطان.
وهذه قصة أخرى تبيّن منهج ابن سيرين في التعامل مع أحداث الحياة:
فقد ادّعى رجلٌ أن له على ابن سيرين درهمان، فأبى ابن سيرين أن يعطيه إياهما، لأن الرجل لم يكن صاحب حقّ، فقيل لابن سيرين: أتحلف؟ فقَالَ: نعم، فاستغربوا منه ذلك، يحلفُ على درهمين!؟
الأمر في نظرهم لم يكن محتاجًا أن يحلف، أما هو فقد كانت له نظرة أخرى إلى المسألة، ولذلك لما قيل له: يا أبا بكر تحلف على درهمين؟
كان جوابه: لا أطعمه حرامًا وأنا أعلم.
سبحان الله، خصمٌ معتدٍ، ويخاف عليه أن يأكل الحرام.
بهذا عطّر الله سيرتهم في الدنيا، وبهذا خلدهم التاريخ، فاستحقوا وصف (السلف الصالح).
رحم الله ابن سيرين، وسائر سلفنا الصالح، وأعاننا على سلوك منهجهم.