تبدأ قصة خطبة #الجمعة منذ بداية الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، ومما لا يخفى على أحد أهميتها ودورها في المجتمع وبين الناس، حتى إن سورة كاملة نزلت باسمها "سورة الجمعة"، والتي فيها آية أوجبت على المؤمنين جميعاً أن إذا سمعوا النداء يوم الجمعة عليهم أن يتركوا كل ما بأيديهم ويتوجهوا للمسجد لحضور هذه الخطبة، بل إن العلماء يرون أن أي عقد أبرم في وقت صلاة الجمعة فهو باطل أو فاسد؛ {يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة:9]، ولك أن تتخيل جدية الأمر من خلال قوله تعالى: "فاسعوا"، وقوله: "وذروا البيع"، عدا عن الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل الجمعة والفضل في التبكير للصلاة من يوم الجمعة والإنصات للخطيب والاقتراب منه أثناء الخطبة.
ولا يخفى على أحد أثر هذه الخطب الأسبوعية المتكررة، ففي كل عام يحضر الناس حوالي الخمسين خطبة التي تتناول مواضيع مختلفة وكذلك تعالج شؤونا اجتماعية أو سياسية أو تنبه على سلوكيات عامة في المجتمع أو ربما تتناول شأن المسلمين العام أو قضية من قضاياه الهامة وعلى رأسها قضية فلسطين.
لا يزال الناس إلى يومنا هذا يعتبرون إمام المسجد مرجعية دينية معتبرة، ويأخذون بكلامه وتوجيهه، فيأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه
ولا يزال الناس إلى يومنا هذا يعتبرون إمام المسجد مرجعية دينية معتبرة، ويأخذون بكلامه وتوجيهه، فيأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، لما تواترت عليه الأمة من إضفاء المهابة على الإمام واعتباره مرجعاً دينياً معتبراً، وبغض النظر عن مدى صحة هذا الاعتبار إلا أن الناس كثيراً ما يغيرون سلوكاً أو ينشئون سلوكاً بأمر من إمام المسجد، وكثيراً ما تجلس في مجلس فتسمع أحدهم يحدث بأمر ويختمه قائلاً: هكذا سمعته من الشيخ فلان، وهذا يضيف عبئاً ومسؤولية دينية أخرى على عاتق إمام كل مسجد فيتنبه لكل كلمة يقولها ولكل أمر يأمر به الناس وبكل فتوى ينقلها أو يفتيها للناس.
ولطالما استخدمت #المنابر لأغراض متعددة، خاصة في الشأن السياسي فقد ورد في بعض كتب الأثر أن أول من دُعي له على المنابر لإعلان التأييد والنصرة له هو الإمام على بن أبى طالب- كرم الله وجهه- ودعا له عبد الله بن عباس حيث قال: "اللهم أيد عليًّا؛ عليَّ الحق"، وكذلك ما ورد من سب لعليٍّ وآل علي رضي الله عنه من قبل خطباء بني أمية دهراً، حتى جاء عمر بن عبد العزيز وأبطل هذه العادة كما تحدثنا كتب التاريخ.
واليوم وفي ظل التطور التكنولوجي وسهولة الوصول والتواصل بدأت مجموعة من وزارات الأوقاف العربية ببدعة جديدة أسمتها "الخطبة الموحدة"، والتي أخذت شكلين اثنين:
الأول: توحيد موضوع الخطبة، بحيث يخطب #الخطيب في فلك هذا الموضوع، دون أن يكون له رأي في اختيار عنوان الخطبة مطلقاً.
الثاني: الخطبة المكتوبة؛ بحيث تصل الخطبة مكتوبة نصاً وحرفاً فيقرؤها الخطيب دون زيادة أو نقص ولا شرح أو توضيح، فيلتزم بمضمونها كاملاً دون اجتهاد، فلا اجتهاد في مورد النص، ومن خالف ذلك فقد عرض نفسه للمساءلة أو العقوبة، ومن المضحك المبكي والسخيف كذلك أن دولاً تقوم بنشر هذه الخطبة عبر موقعها على الانترنت، فتقرؤها قبل الذهاب لحضورها، وكأنك جالس ترقب كل كلمة يقولها الإمام كما كتبت له دون أن يتجاوزها.
يقول حمزة منصور الأمين العام السابق لحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن عقب توحيد خطبة الجمعة في الأردن: "أمّا أن تعمد الوزارة الى توحيد خطبة الجمعة، وتفريغ إمام في كلّ مديرية لمراقبة تطبيق هذا القرار، وإنزال العقوبات بمن يخرج على هذا القرار، فلا أخاله يصبّ في تحقيق أهداف التّطوير والترشيد، وإنما هو اعتداء على حقّ الخطيب وجمهور المصلين، فالخطيب من حقّه بل من واجبه أيضا أن يبدع في اختيار موضوع الخطبة، في ضوء فهم الواقع، ممثلا بأوضاع النّاس والمستجدّات، وهذا من شأنه أن يعزّز الثّقة بالخطيب، والاهتمام بالخطبة، وتمثّل القيم والتوجيهات التي تضمنتها الخطبة".
ونشرت الجزيرة نت كذلك -من مصر- إبان توحيد خطبة الجمعة ما نصه: "ويشير عضو جبهة علماء الأزهر إلى أن القرار جاء بعد تعامل خطباء الأوقاف مع توحيد عنوان الخطبة بقدر من الدهاء حتى لا يتعرضوا للمساءلة أو الخصم، وذلك بتصدير عنوان الخطبة الذي اختارته الوزارة ثم تحويل الخطبة إلى موضوعاتهم المستهدفة.
أما أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية وصفي عاشور أبو زيد فيرى من حيث المبدأ لا مانع من توحيد الخطبة في بعض الأحيان لتوصيل معانٍ إيمانية معينة أو توعية بخطورة أمر ما كالتدخين والمخدرات والتحذير من قتل النفس وغيرها.
لكنه حذر في حديثه للجزيرة نت من أن يكون الدافع وراء التوحيد لخطب الجمعة تحقيق أغراض سياسية لنظام حكم مستبد، وإرغام الناس على سماع شيء بعينه لأغراض لا علاقة لها بدين ولا دنيا ، معتبراً أن ذلك "مما لا يرضاه الإسلام ولا يقره العقل".
السلطات إذ تأمر بتوحيد الخطبة فإنها تسعى إلى إفراغ خطبة الجمعة من محتواها الحقيقي، وهو التأثير في الناس وصناعة التغيير من خلالها
وواضح بأن السلطات إذ تأمر بتوحيد الخطبة خاصة الخطب المكتوبة على مدار العام فإنها تسعى لأهداف معينة، وأبرزها إفراغ خطبة الجمعة من محتواها الحقيقي، وهو التأثير في الناس وصناعة التغيير من خلالها، وكذلك تسعى لرمي قضايا الأمة خلف ظهور الناس والتطلع فقط إلى قضايا فقهية جدلية من أحكام الطهارة إلى السواك والثوب القصير، كما وأنها تريد بذلك أن تجعل من الإمام ببغاء يردد ما يكتب له، ما يجعله يصغر في نفوس الناس وتقل هيبته فلا يعود ذلك الخطيب المفوه الذي يؤثر في الناس أو يأمرهم فيطيعوا.
إن خطباء الجمعة لطالما صنعوا انتصارات عبر التاريخ، ولا يزال إلى يومنا هذا نصب الفاتح في إسطنبول يشير إلى أهمية العلماء والخطباء بجانب القائد العظيم محمد الفاتح، وكذلك دور العز بن عبد السلام في خطبة الجمعة يوم الانتصار العظيم على المغول في عين جالوت، ولا يزال الناس إلى يومنا هذا يحتفظون ببيوتهم بتسجيلات خطب الشيخ كشك رحمه الله لما كان لها من أثر في نفوس الحاضرين.
توحيد خطب الجمعة هو تعدٍّ واضح وصريح على منبر رسول الله وتفريغ له من رسالته ودوره، وإضعاف لرسالة المسجد
وهنا رسالة نوجهها لخطباء المساجد وأئمتها؛ أن لا يكونوا أداة بأيدي الظالمين المستبدين، وأن لا يطيعوهم في غير طاعة الله عز وجل، وأن يجتمعوا كي لا تؤكل قاصيتهم ويتخذوا موقفاً جماعياً تجاه وزارة الأوقاف في بلدهم ليعلنوا عدم استجابتهم لمطلب الخطبة الموحدة، وأن الوزارة ليس لها أكثر من أن تقترح عنواناً مقترحاً أو أن تدعو لخطبة موحدة مرة واحدة لمناسبة أو حدث خاص، أما غير ذلك فهو ليس لهم، وهذا تعدٍّ واضح وصريح على منبر رسول الله وتفريغ له من رسالته ودوره، وإضعاف رسالة المسجد، وليعلم الأئمة والخطباء والناس أجمعين أن لهذه الخطوة خطوات بعدها وخطوات حتى تصبح المساجد خاوية على عروشها، ويبرز نجم علماء السلطان في الإعلام الرسمي وفقط، أما من يرى بأن هناك ضعفاً في بعض الخطباء، فدور الأوقاف أن تدربهم وتطور قدراتهم أو تعين بديلاً عن الضعيف، لا أن تتعدى على دين الله عز وجل فتبتدع فيه ما ليس منه.
ورحم الله الإمام مالك الذي كان ردّه على الخليفة أبي جعفر المنصور حين أراد أن يجمع النّاس على الموطأ: "لقد تفرق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع كل منهم علم فإن جمعتهم على كتاب واحد تكون فتنة"!