يحتاج الداعية وصاحب الفكر لمعرفة كيف يتصرف الناس حتى يستطيع الوصول إليهم بطريقة لا تؤدي إلى عكس المطلوب.
ويحتاج كذلك لمعرفة الأساليب التي يستخدمها أهل الضلال في إبعاد أهل الحق عن القيام بواجبهم.
حكايتنا اليوم تدور حول هذا المعنى.
تقول الحكاية أن أحد المحدثين الذين يختلقون الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى الموصل، وبدأ ينشر أحاديثه الموضوعة، فأراد بعض العلماء الإنكار عليه، ومنعه من نشر الفكر المنحرف الذي يشيعه، فقرروا الذهاب إلى حلقته للإنكار عليه.
كان هذا المحدّث كذابًا ولكنه كان ذكيًا، ككثير من أهل الضلال، فلما رأى جمعًا من علماء الحديث متوجهين إلى حلقته التي كان فيها عدد من صغار طلبة الحديث وناسٌ من العامة أدرك الغرض الذي جاؤوا لأجله، وهو بيان كذبه وضعف الأحاديث التي ينشرها.
فماذا فعل؟؟
لقد لجأ إلى ضربة استباقية كانت تهدف إلى تشتيت نظر الحاضرين عن الهدف الذي جاء هؤلاء العلماء لأجله، فماذا كانت هذه الضربة؟
في ذلك الزمن كانت مسألة (خلق القرآن) لا يزال لها وقع كبير في المجتمع، وكانت العامة تتبنى رأي أهل السنة في القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وتعتبر من يقول هذا ويجاهر به من أهل السنة، ومن يخالفه من أهل البدعة، فقام هذا المحدث الوضَّاع باختلاق سندٍ لحديث نَسَبَه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أنه يقول (الْقُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ)، وهو حديث نصَّ العلماء اللاحقون على أنه حديث موضوعٌ لا أصل له.
كان هدف ذلك المنحرف أن يشتت انتباه العوام الحاضرين درسه، فيظهر كأنه حامي حمى الدين، الملتزم بالسنة المحارب للبدعة، وبالتالي فإن الناس إذا رأوا من جاء ينكر عليه فسيظنون أن هدفهم من الإنكار السنة التي يظنونه ملتزمًا بها، والذي يحارب أهل السنة لا بدَّ أن يكون من المبتدعين.
ونجحت خطَّته:
يقول راوي الحكاية، وهو أحد العلماء الذين كانوا ذاهبين للإنكار عليه:
فَوَقَفْنَا وَلَمْ نَجْسُرْ أَنْ نَقْدَمَ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنَ الْعَامَّةِ، وَرَجَعْنَا وَلَمْ نَجْسُرْ أَنْ نُكَلِّمَهُ.
علينا أن ندرك أن المنحرفين يتعاملون معنا بذكاء ودهاء عظيمين، وأنهم يستطيعون إيقاعنا أمام الناس وكأننا الظالمون وهم المظلومون
العبرة التي نستفيدها من الحكاية أننا يجب أن ندرك أن المنحرفين يتعاملون معنا بذكاء ودهاء عظيمين، وأنهم يستطيعون إيقاعنا أمام الناس وكأننا الظالمون وهم المظلومون، وهذا يستدعي منا أن نحرص على الطريقة التي ننكر بها المنكر، لئلا نساعد في نجاح أساليبهم القذرة هذه.
كما أنهم أذكياء في نشر باطلهم، فعلينا أن نكون أذكياء في الدفاع عن الحق الذي نمثله.
ملاحظة: القصة رواها الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد، 3/676، في ترجمة (محمد بن عبد بن عامر السغدي التميمي السمرقندي)