من ميزات شريعتنا الغراء معالجتها لكافة الأمور وفق ما يجمع بين ثوابت التشريع الإسلامي ونصوصه، وما يحقق المصلحة لأفراد الأمة وعمومها. ومن هذه الأمثلة معالجتها لأخطر القضايا وأهمها، وهي نظام الحكم والتشريع السياسي داخل الدولة.
فقد حدد الإسلام معالم رئيسية للنظام السياسي، دون الخوض في تفصيلاته وشكلياته، حيث تركها للاجتهاد، بما يتناسب مع تطور الزمان واختلاف الأشخاص والأحوال السياسية وتركيبة المجتمعات وغيرها.
ولما كان نظام #الحكم، من أكثر الأمور أهمية وخطورة؛ كونه يمس جميع مظاهر الدولة، وكون انحرافه يفتح الباب على الكثير من المفاسد والشرور، قرر الإسلام مبدأ #الإصلاح السياسي لنظام الحكم، حال انحرافه عن الغايات الرئيسية، وتقصيره في تحقيق الأمور المناطة به؛ وذلك لتحقيق الأمن والأمان في أنحاء البلاد، وتقوية أمر الدين، كما أن الإصلاح السياسي للنظام هو الكفيل بالوفاء بحاجات الناس ومطالبهم في كل عصر وبيئة، مما يؤدي إلى نمو الثروة وعموم الرخاء وتحقيق النهضة.
يقصد بالإصلاح السياسي، التعديل في نظام الحكم، سواء أكان جزئياً أم كلياً، ومحاربة مظاهر الفساد والضعف فيه، بوسائل مختلفة، مما يحقق المقاصد الشرعية المرجوة منه
وأقصد بالإصلاح السياسي، التعديل في نظام الحكم، سواء أكان جزئياً أم كلياً، ومحاربة مظاهر الفساد والضعف فيه، بوسائل مختلفة، مما يحقق المقاصد الشرعية المرجوة منه.
وليس من منهج الإسلام حال انحراف نظام الحكم عن تحقيق مقاصده، تركه دون التصدي له وإرجاعه إلى جادة الصواب ، بل إن القيام بواجب الإصلاح السياسي أمر مطلوب شرعاً إن لم يرتق إلى مرتبة الوجوب؛ لما يفضي إليه من مصالح ومنافع.
قال ابن القيم رحمه الله: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضى إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها. فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل".
وتعتبر المشاركة السياسية إحدى صور الإصلاح والتغيير السياسي السلمية، وتشمل الكثير من الأمور، وهي مقدمة على الوسائل اللاسلمية أو الثورية؛ نظراً لأنها تجنّب الأمة الصراع والفتن وإراقة الدماء.
وسيقتصر حديثي في هذه الورقة على وسائل أربعة، هي المجالس النيابية، والوزارات، والأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني.o
وقبل الخوض في تفصيلات كل منها، لابد من التنبيه على بعض الضوابط الشرعية، والتي لابد وأن تنتظم بها هذه الوسائل، وهي:
1- إعمال قاعدة رعاية الضرورات، والحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، وغيرها من القواعد. وهي لابد أن يراعيها من يقوم بالإصلاح والتغيير السياسي، فهناك ضرورات اقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها، ينبغي المحافظة عليها، وعدم انتهاكها لتحقيق ما هو أقل أهمية ، واختيار الوسائل التي تحافظ عليها وتحميها.
2- ارتكاب أخف الضررين، أو السكوت عن منكر إذا ترتب على تغييره منكر أكبر منه، دفعاً لأعظم المفسدتين، ويرجع هذا إلى إعمال فقه الموازنات، وفقه المآلات، حيث تكون هذه الوسائل مرهونة بما تفضي إليه من نتائج.
إذا كان الإصلاح السياسي لا يقوم على التدرج والتخصص وتوزيع الأدوار، فإنه سوف يكون فوضوياً وعبثياً، يقع في كثير من التناقضات، مما يؤدي إلى الفشل والإحباط
3- مراعاة سنة التدرج، فالمنكرات والمفاسد الموجودة، والتي استشرت لعقود عديدة، لا يمكن إزالتها بمجرد جرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس أو مجلس نيابي، بل لابد من معالجة أشد المنكرات، ثم أخفها وهكذا. ولإنجاح فكرة التدرج، لابد من تحديد الأهداف والوسائل، والمراحل اللازمة للوصول إلى الأهداف. وإذا كان الإصلاح السياسي لا يقوم على التدرج والتخصص وتوزيع الأدوار، فإنه سوف يكون فوضوياً وعبثياً، يقع في كثير من التناقضات، مما يؤدي إلى الفشل والإحباط.
4- استخدام أصلح الوسائل في كل موضع، بما يتناسب مع الحال والوقت، والظروف، وقدرة القائمين عليها. فبعض الوسائل قد تكون مناسبة لدولة دون أخرى، أو وقت دون آخر، أو حال سياسي دون غيره.
5- جواز تغيير الفتوى في بعض الوسائل السياسية، وعدم الثبات على رأي واحد فيها، خصوصاً إذا كانت تعتمد على المصلحة وتقدير الأمور. فقد يكون حكم بعضها في فترة ما محرماً، ثم يكون مباحاً، والعبرة في ذلك الموازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة عليها.
6- الأصل في هذه الوسائل الإباحة، فوسائل الإصلاح السياسي ليست توقيفية، بل يجوز اعتماد أية وسيلة طالما أنها لا تخالف نصاً شرعياً، أو مقصداً عاماً، أو تحقق مفسدة أكبر من المنفعة المرجوة منها .
من وسائل المشاركة السياسية:
أولاً: المجالس النيابية
تعتبر المجالس النيابية مثالاً على الديمقراطية النيابية، حيث إنّ الشعب لا يقوم بنفسه بممارسة السلطة التشريعية، وإنما يعهد إلى نواب عنه ينتخبهم لمدة معينة، وينيبهم عنه في ممارسة هذه السلطة باسمه.
وتتميز المجالس النيابية، بأنها الركيزة الأساسية في السلطة التشريعية، حيث تملك إصدار القواعد العامة الملزمة التي تحكم تصرفات الأفراد والجماعات في نطاق الدولة. والأصل في أعضاء المجالس النيابية أنهم لا ينفذون سياستهم التي تتفق مع أهوائهم ورغباتهم، وإنما ينفذون سياسة مستخلصة من الإرادة الشعبية التي أوصلتهم إلى هذا المنصب، فهم يترجمون إرادة الشعب على شكل قوانين وقرارات.
والمبدأ النيابي ليس غريباً عن الشريعة الإسلامية، بل أكدت السنة على ذلك في بعض النصوص، تحت مسمى النقباء، أو العرفاء. كقوله صلى الله عليه وسلم "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً" (السيرة النبوية –ابن هشام)، وقوله صلى الله عليه وسلم " إنا لا ندري من أذن فيكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم" (صحيح البخاري)
وتعتبر المجالس النيابية مهمة للغاية، في أية دولة؛ نظراً للوظائف المناطة بها، فهناك الوظيفة التشريعية كسن القوانين التي تحتاجها الدولة، وإظهارها على شكل قواعد ملزمة. والوظيفة المالية، كمراقبة أموال الدولة وإنفاقها، ودراسة الميزانيات، والموافقة على القروض والارتباطات المالية، وسلامة تصرفات الحكومة المالية. وكذلك الوظيفة السياسية، عبر مراقبة السلطة التنفيذية، وسؤال الوزراء عن أعمالهم، ناهيك عن رقابته على السياسة الخارجية للحكومة وغير ذلك.
أما حكم المشاركة في المجالس النيابية، فهي مسألة خلافية كبيرة، طرحت قبل سنوات عدة، ومدار رأي المحرمين على أنها تتعلق بتشريع قوانين مخالفة للشريعة، وفيها نوع من أنواع تمييع القضية وإعطاء النظام الذي لا يحكم بما أنزل الله صفة شرعية.
هناك الكثير من التشريعات التي لم تتطرق إليها الشريعة الإسلامية، وينبغي على المجلس النيابي معالجتها في ضوء المصلحة، لذا ليست كل قرارات المجالس النيابية مخالفة للشريعة بالضرورة
وأرى أنه لابد من التنبيه على أن التشريع في المجالس النيابية لا يلتزم بضوابط الشريعة الإسلامية بالضرورة، وذلك نظراً لطبيعة النصوص الدستورية التي يتضمنها دستور الدولة المنظم لعمل السلطات. إلا أنه ومن ناحية أخرى، فهناك الكثير من التشريعات التي لم تتطرق إليها الشريعة الإسلامية، وينبغي على المجلس معالجتها في ضوء المصلحة. لذا ليست كل قرارات المجالس النيابية مخالفة للشريعة بالضرورة.
وقد سرد القائلون بجواز المشاركة النيابية الكثير من الأدلة، والتي تدور حول ضرورة رفض المنكر، ومحاربة الظلم، وتحقيق المصلحة. إلا أن المعيار الحقيقي للترجيح بين الرأيين، هو النظر إلى المصلحة المتوخاة من المشاركة. فإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة فعندها تجوز المشاركة في هذه المجالس، وإلا كانت محرمة.
لذا المطلوب دراسة المصالح والمفاسد المترتبة، والترجيح بينها بناء على غلبة الظن القائم على الدراسة العميقة من قبل الخبراء والمختصين.
قال العز بن عبد السلام: (الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون. وللدارين مصالح إذا فاتت فسد أمرهما، ومفاسد إذا تحققت هلك أهلهما، وتحصيل معظم هذه المصالح بتعاطي أسبابها مظنون غير مقطوع به؛ فإن عمال الآخرة لا يقطعون بحسن الخاتمة وإنما يعملون بناء على حسن الظنون).
أما ترك الفساد، وانتشار الظلم بحجة أن الوسيلة محرّمة دون إيجاد بديل لدرء هذه المفاسد وتخفيف الظلم عن الناس، فهو تهرّب من المسؤولية، وترك للساحة لأعداء الإسلام بحيث يقوموا بإفسادها على طريقتهم.
وحتى لو كانت هذه الوسيلة محرّمة عند البعض، إلا أنها قد تتعين حال عدم وجود وسيلة غيرها لتحقيق الإصلاح والتغيير وجلب المصالح ودفع المفاسد؛ بناءً على ارتكاب أخف الضررين ودفع أعظم المفسدتين.
قال القرافي: "والمعهود في الشريعة دفع الضرر بترك الواجب إذا تعيّن طريقاً لدفع الضرر، كالفطر في رمضان، وترك ركعتين من الصلاة لدفع ضرورة السفر، وكذلك يستعمل المحرّم لدفع الضرر كأكل الميتة لدفع ضرر التلف، وتساغ الغصة بشرب الخمر كذلك؛ وذلك كله لتعيّن الواجب أو المحرّم طريقاً لدفع الضرر".
ثانياً: الوزارات
وهي جزء من السلطة التنفيذية، ويتمثل عملها في رسم السياسة العامة للحكومة بشكل عام، ولكل وزارة بشكل خاص، كما أنها مراقبة من قبل المجالس النيابية، وخاضعة للمحاسبة من قبله.
ويعتبر فقهاؤنا الوزير معاوناً للخليفة، ووسطاً بين الحاكم ورعيته، فالسلطان لا يستطيع تدبير الأمور وضبطها إلا بحسن معاونة الوزراء، فهم إذا صلحوا صلح الحاكم، وإذا فسدوا فسد كذلك.
أما المشاركة في الوزارات في وقتنا الحالي، وأنظمتنا القائمة، ففيها خلاف بين العلماء المعاصرين، فبعضهم ذهب إلى التحريم؛ استدلالاً بالنصوص التي تحرّم الحكم بغير ما أنزل الله، وتحريم المشاركة فيه، كقوله تعالى : {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [سورة المائدة:44]، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفاً ولا شرطياً، ولا جابياً ولا خازناً" (رواه ابن حبان بسند صحيح).
ومناط التحريم عند القائلين بالمنع، يتمثل بإعطاء "الأنظمة الجاهلية" صفة شرعية بدلاً من مقاطعتها، كما أن مفاسدها أكبر من مصالحها –حسب رأيهم- .
أما المبيحون فيستدلون على رأيهم بمشاركة يوسف عليه السلام، في قوله تعالى: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [سورة يوسف:55]، فهو عليه السلام شارك في مجتمع يعبد الأصنام، وكانت مشاركته لعمل محدد، رغم أن المجتمع وسلطته كانوا على الكفر.
ولهذا نجد بعض المفسرين يصرّحون بجواز تولي الفاضل المنصب من السلطان الفاجر، قال ابن عطية في تفسيره : "قال بعض أهل العلم، في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوّض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما يشاء. وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز له ذلك".
ناهيك عن استدلالهم بوجود مصالح كثيرة، كتقليل الشر والظلم، وارتكاب أخف الضررين، وغيرها.
وحقيقة الخلاف في هذه المسألة، أنّ المجيزين يرون جواز الوقوع في الحرام في ظروف معينة، وإن الظروف المعاصرة تبرّر ذلك أو توجبه، وهو ما يخالفهم فيه الفريق الثاني.
وقد تطرق الفقهاء لمثل هذه المسألة، كمسألة تولي القضاء من الحاكم الظالم، إذا كان بإمكان القاضي تخفيف الظلم وعدم تدخل أحد في تصرفاته، وهو رأي الحنفية، وبعض الشافعية والحنابلة.
ويستفاد من ذلك أن إباحة الفقهاء تولي القضاء من السلطان الجائر يدلّ على جواز المشاركات في الوزارات في وقتنا الحالي لتحقيق الغاية المرجوة، وهي رفع الظلم ودرء المفاسد، طالما أن الوزير بإمكانه القيام بذلك، دون تدخل من غيره.
قال العز بن عبد السلام: "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله؛ جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة. إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها وفي ذلك احتمال بعيد".
لابد من وجود ضوابط تحكم جواز المشاركة في الوزارات وهي أن يملك الوزير صلاحيات تمكنه من تحقيق الأهداف التي يريدها، مع الموازنة فيها بين المصالح والمفاسد، ولا يكون النظام ديكتاتورياً بحيث لا يمكن إصلاحه، أو يتعدى على الناس ويشيع القتل فيهم
وأختم حديثي حول هذه المسألة، بأنه لابد من وجود ضوابط تحكم جواز المشاركة في الوزارات وهي أن يملك الوزير صلاحيات تمكنه من تحقيق الأهداف التي يريدها، وأن لا تكون غاية بذاتها بل وسيلة يتم الموازنة فيها بين المصالح والمفاسد، ولا يكون النظام ديكتاتورياً بحيث لا يمكن إصلاحه، أو يتعدى على الناس ويشيع القتل فيهم، مع ضرورة تقييم التجربة بين كل فترة وأخرى.
ثالثاً: الأحزاب السياسية
مما لا شك فيه، أنّ لوجود الأحزاب السياسية القوية وذات التأييد الجماهيري الواسع، دور واضح في تحقيق الإصلاح والتغيير السياسي داخل الدولة.
فالأحزاب السياسية، تسعى لبرمجة رؤاها وأفكارها، من خلال مشاركتها السياسية الفاعلة في كافة المجالات، سواء كان عبر الوصول إلى رأس السلطة، أو الاشتراك مع غيرها من الأحزاب في المجالس النيابية، أو الحصول على قدر من التأييد الشعبي بحيث يسمح لهذه الأحزاب الضغط على السلطة الحاكمة لتنفيذ مطالبها.
وللأحزاب السياسية أدوار عديدة تقوم بها، وأمور إيجابية تترتب على تعددها، كتكوين ثقافة سياسية للأفراد، وخلق رأي عام ومؤثر في الكثير من القضايا، ناهيك عن تحقيقها للاستقرار السياسي للدولة، حال وجود حياة سياسية تحترم التعددية وإرادة الشعوب، عبر الانتقال الشرعي والسلمي للسلطة. كما أن الأحزاب تعتبر أجهزة رقابية لمنع استبداد الحكومات، وكشف أخطائها، وضمانة فعّالة واقعيّة تمكن الشعب من كفّ يد الحاكم عن الظلم والاستبداد .
ورغم أنّ تعددية الأحزاب لها بعض العيوب، كتشرذم الأمة، وتشتت قواها عبر تقسيمها إلى معارض ومؤيد، وتغليب الصالح الحزبي على الصالح العام، ناهيك عن تشويه الرأي العام وغير ذلك. فإن هذه تخضع لطبيعة الحياة السياسية داخل الدولة، والتركيبة الاجتماعية والثقافية، كما أنها تختلف من بلد لآخر، ورغم ذلك فوقوع بعض الأحزاب في هذه السلبيات لا يعني تعميمه على الكافة.
أما تعدد الأحزاب داخل الدولة، فهي مسألة خلافية، اختلف حولها العلماء، فمنهم من ذهب إلى التحريم مستدلين بالآيات والأحاديث التي تنهى عن التفرق والتحزب. كقوله تعالى: {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} [سورة الأنعام:159]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" (رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح).
كما أن فيها منازعة للإمام، وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان" (متفق عليه).
أما القائلون بجواز التعددية فاستدلوا على رأيهم، بعموم الآيات التي تدعوا إلى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأحزاب تحارب المنكرات الكبيرة التي لا تجدي معها نفعاً المعارضة الفردية. يقول الشيخ القرضاوي: "فإذا أردنا أن يكون لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معناها وقوتها وأثرها في عصرنا، فلا يكفي أن تظل فريضة فردية محدودة الأثر، محدودة القدرة، ولا بد من تطوير صورتها، بحيث تقوم بها قوة تقدر على أن تأمر وتنهى، وتنذر وتحذر، وأن تقول عندما تؤمر بمعصية لا سمع ولا طاعة، وأن تُؤلّب القوى السياسية على السلطة إذا طغت، فتسقطها بغير العنف والدم. إن تكوين هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية، أصبحت وسيلة لازمة لمقاومة طغيان السلطات الحاكمة ومحاسبتها، وردها إلى سواء الصراط ، أو إسقاطها لحيل غيرها محلها، وهي التي يمكن بها الاحتساب على الحكومة والقيام بواجب النصيحة والأمر بالمعروف وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ومن أدلتهم العقلية، أن تعدد الأحزاب كتعدد المذاهب، فالمذاهب الفقهية أشبه بحزب فكري التقى أصحابه على هذه الأصول ونصروها بحكم اعتقادهم أنها أرجح وأولى، وأن مناصرتهم تعني عدم إبطال ما عداها. وكذلك الحال في الأحزاب التي تمثل مذاهب مبنية على أفكار وسياسات مؤيدة بالحجج والبراهين، دون إبطال أطروحات الآخرين.
التعددية الحزبية هي أنسب الوسائل لحماية الحقوق وكبح جماح السلطة حال جورها وانحرافها، ومفاسدها لا تقارن مطلقاً بمفاسد الحكم الديكتاتوري السلطوي، الذي يقوم على إلغاء المعارضة وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات
والحقيقة أن التعددية الحزبية من المسائل التي تقبل الاجتهاد فيما يحقق المصلحة. وفي عصرنا هي أنسب الوسائل لحماية الحقوق وكبح جماح السلطة حال جورها وانحرافها، ومفاسدها لا تقارن مطلقاً بمفاسد الحكم الديكتاتوري السلطوي، الذي يقوم على إلغاء المعارضة وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات.
ولابد من وضع ضوابط لممارسة أي عمل سياسي للأحزاب، بحيث لا يسلبها حقيقتها ووظائفها الأساسية، ولا يعطيها الفرصة لتدمير البلد وتخريبه، كالعمل لحساب جهة معادية، أو تتبنى أفكاراً تدمر المجتمع وتزعزع استقراره.
رابعاً: مؤسسات المجتمع المدني
قد تكون هذه الوسيلة مختلفة عما سبق، بأنها غير مندرجة تحت الأطر السياسية داخل الدولة، أو ليست من المؤسسات الرسمية، فهي يغلب عليها الجهد التطوعي اللاحكومي، ومنظمات مستقلة بعيدة عن الإشراف المباشر من قبل الدولة. إلا أن لها دوراً كبيراً في تحقيق الإصلاح السياسي، وتعزيز المشاركة السياسية داخل الدولة، عبر سعيها إلى تشكيل قيود على حركة السلطة وأدائها بما يحافظ على حقوق المجتمع، ناهيك عن كونها آلية من آليات التنشئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل الدولة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه المؤسسات، تشجع المواطنين على مكافحة الفساد والظلم، عبر إزالة ثقافة الخوف لدى الشعوب، وتشجيعهم على إبداء آرائهم بحرية، وتشكيل رأي عام مؤثر، عبر الحملات التي تقودها وسائل الإعلام الحرّة، وأنشطة المنظمات الحقوقية، والحلقات النقاشية التي تقدم الأفكار للحكومة لمعالجة المشاكل الداخلية، ولها دور كبير في تحقيق حياة سياسية جيدة داخل الدولة، عبر إشرافها على نزاهة الانتخابات، وتوعية الناخبين، مما يحمي مخرجات العملية الانتخابية من التزوير والتلاعب وبالتالي يحقق انتقال السلطة للأكثر شعبية وتأييداً، مما يحقق الاستقرار داخل الدولة.
تشجع مؤسسات المجتمع المدني المواطنين على مكافحة الفساد والظلم، عبر إزالة ثقافة الخوف لدى الشعوب، وتشجيعهم على إبداء آرائهم بحرية، وتشكيل رأي عام مؤثر، عبر الحملات التي تقودها وسائل الإعلام الحرّة، وأنشطة المنظمات الحقوقية، والحلقات النقاشية
أما حكم إقامتها، فهي من المسائل التي لم يتطرق إليها الفقهاء المعاصرون إلا بشكل عام، وأرى أن أدلة مشروعية إقامتها، تتمثل بتلك النصوص التي تدعوا للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ما يحقق مصالح الناس، ويحمي حقوقهم يدخل في عموم هذه الآية.
كما أن الفقهاء عرفوا أنواعاً من النقابات، كنقابة ذوي الأنساب التي كانت تعنى بمن ينتسب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث تحافظ على حقوقهم ومصالح، وتنمي أموالهم وتدافع عنها، وتحقق التكافل فيما بينهم.