ليس أجمل من بداية بين متحابين، جمعهما الرضا بالقليل، والعمل على تطبيق كلمة الله في نفسيهما ثم أسرتهما الوليدة، ثم السير بها بين الناس.
زوج وزوجة ارتضى كلاهما بالآخر دون غيره، هو رضي منها الالتزام وحسن الخلق والحياء وحجابها السابغ وزيها الفضفاض وفهمها العميق، وهي رضيت منك بالمروءة وحب الدين والسعي على الرزق والجدية في التعامل مع الناس وغض البصر والصدق الذي اختبرته فيه مرات عديدة.
زوجان كلٌّ منهما يبذل ما عنده في سبيل إسعاد الآخر، جمعهما الحب وبارك لهما حب شرع الله والتمسك به، قربت بينهما الطاعة المستنيرة لله وحده دون غيره، كان بيتهما مثالاً للبيت المسلم الناجح الذي يشار إليه بالبنان حين تحدث خلافات ما بين زوجين يعرفانهما، كانا معاً يمثلان التفاني والذوبان في الآخر، وظلا هكذا إلى أن سمعت صرختها له أن يتوقف، يتوقفا معاً بعدما كاد البيت المتين الأساس والبنيان أن ينهار فوقهما، بعدما كادت تهوي بهما رياح المادة دون مراعاة لتجديد روح العلاقة قبل أن يدب فيها المشيب، تركتها تصرخ علها تسمعه، وتسمع غيرها ممن يندبن حظوظهن العاثرة، ويطلبن أكثر من طاقة الأزواج فيضيع الزوج، وتضيع البهجة، ويموت الحب، تركتها تصرخ لعل صرختها تجد قلوباً مصغية فنتعلم قبل فوات الأوان:
البساطة كانت عنوان بيتنا، والمودة ديدنه، مر عام ثم عام ونحن يكفينا القليل ويسعدنا أن نكون معاً بعد عمله الذي يستغرق ثلثي النهار ليقضي معنا الوقت المتبقي ننهل فيه من حبه سعادة ورعاية ودفئاً، يأتي الطفل الأول، ثم الثاني ثم الثالث، ثم تزداد المتطلبات فتكاد تعصف بالبيت الآمن بعض رياح التغيير والاحتياج، بدأت أتململ من ضيق الحال مع كثرة مستلزمات الأبناء، الذين يكبرون يومًا بعد يوم، وتكبر معهم احتياجاتهم اليومية، فكان لابد من تغيير سياسة البيت الهادئ الوديع؛ لتتماشى مع ما استجد من ظروف، وتم الاتفاق على أن يتفرغ كلٌّ منا لما هو مطلوب منه من مهام في الحياة دون أن تكبله العاطفة عما هو مطلوب منه، فالزوج ينطلق في الحياة بلا تهاون وبلا كسل يبحث عن المزيد والمزيد من المال؛ كي يرفع من مستوى الأولاد الذين لا ذنب لهم في أن يولدوا في أسرة رقيقة الحال، بينما تتفرغ الأم للتربية اللائقة بهؤلاء الوافدين الجدد، الذين هم فلذة الكبد وروح الفؤاد، ليلف الصمت ذلك البيت الذي طالما علت فيه صيحات السعادة لتفيض على من حوله.
ساد الصمت حين عاد الوالد لأول مرة من عمله، الذي يستوجب منه المكوث بالخارج ساعات طويلة متتالية، عاد منهكًا تعبًا لا يستطيع ردًّا على سؤال، ولا حتى الاستماع لكلمة حب، ساد الصمت وتسلل الجمود لتلك العلاقة الأسرية التي كانت في يوم من الأيام من أروع العلاقات الزوجية على الإطلاق.
ومع مرور السنوات تساقطت منا أشياء نسينا أنها كانت موجودة أصلاً بيننا، تساقطت كلمات المودة وصارت بلا معنى، فقدت رونقها وبريقها، تجمد الحب وصار تصريحا كعناوين الأخبار المكررة، فلا جديد، ولا روح، ولا قلب، بل متطلبات تتضاعف وكأنها عوضاً عن ذلك الكيان الغائب عن البيت إلا بجسد منهك يعود ليلتمس بعض الراحة ليواصل في اليوم التالي رحلة بحث جديدة عن مزيد من المال، ومزيد من ضمانات السعادة وضمانات المستقبل الذي فقد ملامحه، سنوات مرت علينا يلفها ذلك الجمود القاتل، كل يوم ككل يوم، متاهة لا خروج منها، ودائرة مغلقة لا تبيح الخروج عليها مهما حدث، إنجاب ولدنا الأخير لم يكن كافيًا لفك ذلك الحصار الغاضب الصامت البارد في علاقتنا معًا، المرض الذي ألم بأحد أولادنا وتشاركنا معًا في السهر والألم لأجله لم يكن كافيًا لإذابة الجليد العالق بها منذ تلك السنوات العجاف، أحداث كثيرة مرت بنا كانت كفيلة كل واحدة منها أن تعيدنا إلى ما كنا عليه يومًا في ذلك البيت الذي أنفقنا جلَّ عمرنا في تثبيت أركانه وإظهاره بين الجميع في صورة محترمة تليق بمكانتنا وتمهد لمستقبل آمن لأبنائنا الذين أخذوا مني اهتمامًا فوق المعتاد!
أخذته متطلباتنا منا كثيرا، بينما انشغلت أنا مع أبنائنا في البيت لأربيهم كأحسن ما يكون، فأخذوني منه أكثر، ابتعدنا ولم نشعر بذلك البعد في أوله فانشغالاتنا أحدنا عن الآخر أخذتنا، ولم تدع لنا وقتًا نفكر، كنت أدفعه للعمل وكان سعيدًا بنتاجنا معًا: (أبناؤنا).
يعود للبيت متأخرًا وربما لا يعود باليوم، باليومين، لا أسأل، المهم أنه في نهاية كل شهر يعطيني ما يكفيني لحياة كريمة وأكثر، حتى صار عندنا ما يكفينا لسنوات قادمة نحن وأبناؤنا وربما أحفادنا، كنا نلهث خلف الحياة وتلهث خلفنا، تعبت، الأبناء احتياجاتهم لم تعد تعتمد على الطعام والشراب والملبس الجيد وكلمة خطأ وعيب وحرام، المشكلات صارت أكبر بكبرهم، والاحتياجات للأب ازدادت ولم تعد توجيهات الأم وحدها تكفي، نظرت حولي وتلفت باحثة عنه ليشاركني مهامه الأبوية التي أخذتها على عاتقي، لم أجده، أصبح اللهاث خلف الدنيا عادة لم يعد لديه القدرة على فراقها، قال لي: لقد خالفت الاتفاق بيننا، أنت لك عندي احتياجاتك التي طلبتها يومًا وليس أكثر، لا خرق للاتفاق الذي تم برضانا نحن الاثنين، لم يصبح زوجي، إنما أصبح آلة صماء تجلب لنا ما نحتاجه، تعبت، صرخت فيه عد إلينا، انتبهت لخطئي، لكن بعد فوات الأوان، لمْتُه على ما فعلته أنا، أنا من قمت بوضع تلك القواعد، أنا من قتلت الإنسانية بيننا، أنا من حوَّلت البيت إلى مجموعة آلات حين قسمت المهام ليس لتنظيم البيت وإنما لهدمه وأخرجت زوجي من إنسانيته، أنا من فعلتها حين حولته جابيًا للمال.
كل ما أتمناه اليوم أن يكون لي زوجي كما كان زوجًا إنسانًا محباً راعياً مربياً، كل ما أريده أن أستعيد ذلك اليوم الذي كنا نتضاحك فيه من عمق قلوبنا حين كنا نؤخر فيه الغداء ليصير عشاء في وجبة واحدة فنملأ قلوبنا رضًا يكمل بروعته وجماله جوع البطون، أريد استعادة بيتي حيث كنت فيه معه هناك.