"ما أجملها هذه الفتاة وأغناها!"
"هذا الممثل رائع، كم أغبط زوجته عليه"
"يا لحسن حظ هذه الفتاة وقد التقت بفارس أحلامها"
هذا صحيح، فكثيراً ما يُعجَب بعضنا بأبطال القصص والمسلسلات، أو الممثلين، أو حتى المشاهير. ونغفل أو نختار أن نغفل عن كثير من الحقائق المظلمة في حيوات، أو قصص هؤلاء.
فعند قراءة #الروايات الرومانسية، أو ذات النهايات السعيدة مثلًا، كثيرًا ما نرى بعض الفتيات يحلِّقن في عالم من الأحلام والخيالات. هذا ناهيك عن كونهن يغبطن بطلة القصة "سعيدة الحظ"، والتي تزوجت حبيبها في النهاية.
ونتجاهل بكل سذاجة كمَّ التعاسة والشقاء، اللذان لاقتهما البطلة في سبيل الوصول إلى السعادة، التي نالتها في نهاية القصة.
فمثلًا، تحكي إحدى الروايات الأجنبية أنَّ سيدة آذاها زوجها من شدة الضرب، فارتحلت إلى بلدة بعيدة لتعمل طباخة في "منشرة للخشب"، شمال الولايات المتحدة، ووسط الرجال لتكسب قوت يومها. وفي النهاية تحب وتتزوج من صاحب المكان، ويعملان معًا، وتنتهي القصة. فما كانت نتيجة القراءة؟! نتيجتها ألا يعلَق بذاكرة معظم القراء سوى هذه النهاية السعيدة! ومن ثَم ينسون قصة المعاناة والألم والشقاء، التي لاقتها السيدة حتى تصل لتلك الخاتمة الرائعة!
وقصة أخرى من الغرب تحكي عن فتاة انتحر أبوها، وقد تَرَكها وأمها وأختها بغير عائل. ووجدت نفسها مجبرة على الزواج من شاب لا يُحبها حتى تتمكن من الحصول على ميراثها (كما كانت تحتم الأعراف آنذاك في الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب). ثم حدث أن ساقتها الظروف لتركب السفينة مع ذلك الشاب الذي تبغض. وتتعرض السفينة لخطر القرصنة، وتقضي الفتاة شهورًا تعمل كخادمة في البحر على متن سفينة معادية. ثم تنجو في النهاية، وتنجح الأحداث التي مرت بهم في جعلها هي وذلك الشاب الذي كرهته أول مرة، يقعان في الحب ويتزوجان ختامًا! فترى بعض الفتيات بعد قراءة هذه الرواية تحلم بفارس الأحلام ذاك، بل وقد تتوق لتكون على متن السفينة تذوق جو المغامرة، وتعيش قصة الحب، وقد تغاضت عن كل أنواع الألم والعذاب، التي تجرعتها البطلة في سبيل الحصول على تلك الأشياء!
معظم الأعمال الأدبية، تحمل الكثير من الواقعية، ولكننا نحن كقراء نختار أحيانًا أن نغض الطرف، إلا عن الجزء الذي يروق لنا ويسعدنا
كما لاحظتُ أنَّ كثيرين قد يتهمون من يقرأ، أو حتى يصدق الروايات الرومانسية بعدم الواقعية، وقد يكون في هذا الحكم درجة من الصحة. غير أن الحقيقة أن معظم هذه الأعمال الأدبية، وعلى غرار ما أوردنا من الأمثلة، تحمل الكثير من الواقعية، ولكننا نحن كقراء نختار أحيانًا أن نغض الطرف، إلا عن الجزء الذي يروق لنا ويسعدنا.
خطأ آخر نقع فيه حين ننظر فحسب للجزء الممتلئ من الكوب، وهو أننا نتغافل عما حُرم منه بعض الناس في مقابل ما حصلوا عليه . فـعلى سبيل المثال، نرى "العملاق" عباس محمود العقاد، الذي درس وأبدع في الكتابة عن المرأة، وغيرها من الموضوعات، بصورة لم يجاريه فيها أحد إلا القلة النادرة! ومع هذا لم يتزوج العقاد قط؟! والحبيبة الوحيدة في حياته خانته، بل وكانت سببًا في إعراضه عن معشر النساء إلى آخر أيامه! معظمنا يغبط العقاد على عصاميته وعبقريته، سيما وأنه لم يحصل على أي شهادة علمية أو دراسية اللهم إلا الابتدائية! ولكن كم منا يشفق على العقاد الوحيد الأعزب الذي خانته حبيبته، فلم يتزوج ولم ينجب قط!ولما رأينا من أهمية لهذا الموضوع، خاصة في عقول كثير من الشباب والفتيات، الذين لا يكفون عن المقارنة بأبطال القصص والمشاهير، متناسين التدقيق في النصف الفارغ من حياوات هؤلاء.
أما عن المشاهير والممثلين، فحدث ولا حرج. فـ "أوبرا وينفري" مثلًا تُعتبر المليارديرة الأولى والوحيدة السمراء في جنوب الولايات المتحدة، ومن أشهر الشخصيات وأكثرها تأثيرًا على مستوى العالم. وتمتلك ما يقارب عشرة أماكن للسكن ما بين منتجعات، وبيوتات ضخمة وشقق فاخرة. ولكنها من جهة أخرى، فشلت في جميع علاقاتها العاطفية بلا استثناء، ولم تُفضِ أي منها إلى القفص الذهبي! علاوة على كونها تعاطت المخدرات فترة من حياتها فقط من أجل حبها لأحد الرجال. بل وحاولت الانتحار مرة لمَّا فشلت إحدى مغامرات حبها!
وقصص الممثلين لا تنتهي، ومع هذا فلا أرى أنه يجوز لنا أن نمضي دون ذكرها، كونها أمست سبب كدرٍ لكثير من الناس. فقليل هم الذي لم يُسحروا بممثل أو يُعجبوا بممثلة، أو يتمنوا لو قابلوه أو عرفوها. فتُعجَب إحداهن بممثل في دور ما، ثم يسلب لبها برقته! ويراه أحدهم في فيلم مغامرة، فيُؤخذ بشجاعته. فهل فكر هؤلاء في الاطلاع ولو على السير الذاتية لمثل هؤلاء الممثلين؟!
فإذا ما قررنا فعل ذلك، فإننا لا ريب سنُصدَم، فهذا الممثل الذي يحمل باقات الورد، ويوزع الابتسامات، والتعليقات اللطيفة، ويتحدث بلباقة، نراه قد عجز عن تكوين أسرة واحدة متماسكة سعيدة! وتلك التي أذهبت ألباب الرجال الحازمين، عجزت عن الحفاظ على الرجل الوحيد، الذي فرضه عليها "الواقع" لا "التمثيل"، وهو زوجها! وكثيرات هن الممثلات اللاتي مثَّلن أدوار الأمهات، ولم يعشنها في الواقع قط. وهكذا، بعد أن نطلع على حيوات بعض هؤلاء، سنشفق عليهم، ولن نعود لنغبطهم، أو حتى نعجب بهم. وأرى أننا بعد تلك الاكتشافات لن نلومهم على خداعهم لنا، أو لِنقُل خداعنا بهم! لأننا ببساطة سنُمسِي ننظر في كل مرة للأنصاف الفارغة من أكوابهم! تلك الأنصاف المحزنة، والمأساوية، والواقعية لشديد الأسف.
حتى المسلسلات التركية ـــ على وجه التحديد ـــ والتي غزت العديد من شاشات التلفاز، بل وحطمت الكثير من بيوتات العالم العربي، لا تنفك تخدعنا بسحر الإناث، ووسامة الرجال، ورومانسية الكلام. ورغم أن حتى تلك المسلسلات لم تَنْج، كمعظم القصص والروايات من أحداث مأساوية، وفراق بين الأحبة، وهجر، وطلاق، وموت ... إلخ.
نحن نأبى إلا أن ننظر للجزء الممتلئ من الكوب، ذاك الجزء الذي يروق لنا ويرحينا، ويبعد عنا الشعور بتأنيب الضمير. وبالتالي الرغبة في تغيير واقعنا
بيد أننا في النهاية نأبى إلا أن ننظر للجزء الممتلئ من الكوب، ذاك الجزء الذي يروق لنا ويرحينا، ويبعد عنا الشعور بتأنيب الضمير. وبالتالي الرغبة في تغيير واقعنا، وملء الجزء الفارغ من أكوابنا، عوضًا عن غبط الآخرين على الأجزاء الممتلئة من أكوابهم. ونأبى أشد الإباء أن ننظر إلى الأكواب كاملة، أو على الأقل الأنصاف الفارغة منها، والتي تعكس النقص في حيوات الآخرين، تمامًا كنظيره في حيواتنا! لذا، أهيب بالجميع أن يتوقفوا عن الاشتغال بالنصف الممتلئ من أكواب الآخرين، ذلك لأنه ما من نصف ممتلئ إلا ويصاحبه نصف فارغ، وكل له من كليهما نصيب !