الأم تسير مع طفلها مرورا بإحدى السفارات: سبحان الله الدولة تزين شوارع الأجانب وشوارعنا كلها حفر!!
لا يبدو تعليق الطفل ساخراً بقدر ما يحمل من عفوية وواقعية، وإذا تأمل أيّ قارئ أكثر بقليل وأسقط ذلك على حياتنا فسيدهش من الاستفحال الذي وصل إليه الأمر من دون أن نشعر، المصيبة الأكبر هي عدم إدراكنا لأهميته، أهمية إعطاء الشخص لنفسه القيمة التي يستحق، تبدأ القصة بالشخص ثم بالأسرة فسكان الحي، المدينة، الشعب بأكمله.يرد الابن: حتى أنت ماما تصبين الشاي للضيوف في "الكاسات" الحلوة واحنا بـ"تشربينا" بـ"كاسات" جبنة!!
لقد أرهق الطغيان الشعوب العربية وقد مرّ بمراحل كثيرة قادته فيها جهات مختلفة ورغم اختلافها في الكثير من الأوقات من بين دولة لأخرى إلّا أن المحصلة كانت واحدة، والآن لم يعد هناك من صعوبة أو أي شيء يذكر في جعل الفرد العربي والمسلم خصوصا يحطّ من منزلة نفسه بنفسه قبل أي شخص آخر، أو قبل أي فرد أو واجهة تنتمي لأي بلاد خارجية، تلك مصيبة حقيقية في الواقع!
لستُ هنا بصدد الحديث عن الثقة بالنفس وآثارها تربويا وما إلى ذلك، إلّا أنها الآن أصبحت بمنزلة أحد أهم المشاكل التي يعاني منها الفرد المسلم، الجيل الحالي مزعزع الثقة جداً بدينه وبمعتقداته، أو بما يفترض أن تكون معتقداته، إذ إن المعتقدات لم تسمَّ بذلك إلا لكونها استحلت مكاناً عميقاً للغاية في النفس صار من الصعب معه زحزحتها أو التشكيك بها وهو ما يفتقده الآن المجتمع العربي بشكل عام والمسلم بشكل خاص.
قد يتساءل أحد: ما علاقة ثبات المعتقدات والقيم بإعطاء النفس قيمة أو بما استفتحت به حديثي هنا، لذا فلنوضح الأمر بالتفكير بتمعن في الأمثلة التالية:
في حال تواجد فرد في مكان لا يشعر فيه بالراحة بسبب صوت موسيقى صاخبة أو أغنية تحوي كلمات خادشة للحياء أو ما إلى ذلك فهل سيفكر -لا أتحدث عن ردة فعله على الإطلاق أو ملاءمتها للمكان- هل بأن له الحق بالاعتراض؟ بأن له الحق بأن يكون مرتاحا ومستمتعا كالجميع كعميل للمتجر أو للمول أو كعميل لسائق الأجرة أو للباص العمومي أو أو أو؟
الفرد الغربي أياً كان المكان الذي هو فيه لن يتردد بإبداء انزعاجه على الإطلاق، لن يفكر بالأمر حتى بينما تجد من يعترض منّا قد قلّب الفكرة عشرات المرات في رأسه ورتب الكثير من الجمل حتى انتقى منها واحدة وأخيراً أبدى اعتراضاً متواضعاً أو انزعاجاً على استحياء، حسنٌ ذلك بالطبع إن فعل قبل أن يقضي حاجته ويخرج من المكان بعد أن أبدى صبراً أيّوبياً ربما لم يكن مستعداً لإبدائه في أيّ موقف آخر، خصوصاً في الفترة الأخيرة ومع انتشار (الإسلاموفوبيا) في العالم، الشيء العجيب هنا هو انتشاره بين المسلمين أنفسهم!!
وكثيراً ما قد يجد أبناؤنا وربما نحن أنفسنا قد مررنا بهذا الموقف ولا نزال، خلال بيئة العمل أو الدراسة عندما يجمع فريق المشروع أو شركاء الطالب على ما يعارض مبدأً أو ما ينافي خلقاً إسلامياً معيناً؛ يجد الفرد حينها صعوبة كبيرة للغاية لإبداء عدم موافقته أو الكثير من الإحراج في إبداء رأيه المعاكس لما أجمع عليه الفريق، ولا يقتصر الأمر على الأخلاق والمبادئ الدينية فحسب!
لقد تربت عدة أجيال على أسلوبٍ جعل من المحرج أو من غير المريح في أحسن الأحوال إبداء الرأي الشخصي، فبات ذلك يشكل فجوة كبيرة جعلت ممن كبر من تلك الأجيال يجد صعوبة في الدفاع أو حتى الثبات على قيم وثوابت أساسية، في الوقت نفسه كان رد فعل الأجيال الشابة والصغيرة التي أرادت التحرر مما أسمته فكراً ضيقاً إلى أنها انحدرت إلى مرحلة الانحلال، انحلال فجرته حالة الكبت الطويلة لآبائهم وأجدادهم.
في النهاية لم تصبح المعادلة موزونة في أيّ طرف وانتهى الطرفان إلى النتيجة ذاتها: عدم منح النفس القيمة التي تستحق، سواء كان ذلك بالغلو أو الإفراط، و أصبحت هناك صورة شبه عامة للتواضع المبالغ جداً به حتى خرج عن دائرة التواضع، وللثقة المفرطة للغاية التي تجاوزت إطار الثقة بكثير.
نحن لا نزال ننتظر من العالم أن يقوم بتقديرنا! أن يقوم بالخضوع لنا بإرادته وأن يقوم بتبجيل إنجازاتنا، وكأن ذلك يبدو منطقياً ليحدث! لكن من لم يقم بتقدير نفسه في المقام الأول كيف به الاستياء عندما يحطّ العالم من قدره؟
تلك مزحة لن تحدث على الإطلاق، صحيح أن لدينا قدر لا يستهان به من المؤهلات، وصحيح تماماً بأن لدينا القدرة والموهبة والكلمة والحق وكل ما لدينا، ولكن حمل ذلك كله بلا ثقة حقيقية، بلا إيمان راسخ، بدون التشبع بفكرة أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ لن يحقق أي شيء فعلياً، وستظلّ شوارع السفارات فارهة وسنظلّ نشرب الشاي بكاسات الجبنة!!