رحل الشهيد جسداً وبدأت حياته تسري في عروق أمته، وتنبض بها قلوب أحبائه، والتائقين إلى ارتقاء مدارج العلا ومراتب الشهداء من بعده..
ما كان خبيئة خير وبر وصلاح لم يعد شأناً خاصاً بالشهيد وأهله وأضحى حقاً مشروعاً لكل السائرين على دربه، المنتظرين الذين لم يبدلوا تبديلاً..
هكذا هم الشهداء.. بالكاد تعرف عنهم شيئاً قبيل ارتقائهم واصطفائهم، فهم الأخفياء الأتقياء الأنقياء، وما إن تحين لحظة صعودهم الدامي حتى تشع أنوارهم وتشرق الدنيا بضيائهم وتتضوع بعبيرهم وأريجهم..
شيئاً فشيئاً تتكشف الأسرار التي كانت تحيط بالشهيد وأهله وأسرته وجيرانه وأصدقائه، والأسرار التي تتعلق بعمله وجهاده وإثخانه في العدو.. وعندها تتضح الصورة أكثر فأكثر ويبدو الصعود منطقياً بل حتمياً بعد استكمال الشهيد لاستحقاقات الشهادة ومتطلباتها..
هكذا هم الشهداء.. بالكاد تعرف عنهم شيئاً قبيل ارتقائهم واصطفائهم، فهم الأخفياء الأتقياء الأنقياء، وما إن تحين لحظة صعودهم الدامي حتى تشع أنوارهم وتشرق الدنيا بضيائهم
خرجت علينا زوج الشهيد الصابرة المصابرة لتكشف المستور في مؤتمر "المرأة الفلسطينية.. بناء وأدوار في ظل التحديات" الذي نظمته الجامعة الإسلامية في غزة وقالت في كلمتها: "أريدكم أن تباركوا لي وتهنئوني بمازن، فهو يستحق أن أضحي له بحياتي وكل شيء مني، فأنا عندما تركت أهلي كنت أعرف من هو مازن وأعرف أنني قد أفقده في أي لحظة، وأول كلمة قالها لي: قد تعيشين معي يوماً أو سنة أو تعيشين معي إلى الأبد فأنا لا أعرف متى سيكون أجلي فأنا خرجت من السجن وسوف أستمر في الذي كنت فيه ولن أتوقف نهائياً.. فهل تقبلين بي؟ فقلت له: هذا يشرفني، ورضيت به وأتيت إلى غزة وأنا راضية وفخورة بمازن.. مازن الأسير المحرر الذي أكرمني الله بأنه قد اختارني. وأنا أتمنى لو أن الزمن يعود لأعرض نفسي عليه وأختاره. وبإذن الله يجمعني به عن قريب بعد أن أكمل مهمتي وأصنع من محمد مازن آخر.. كنت قلت لكم أن همي كان أن أرى أهلي وأهله لأنهم مبعدون وممنوعون من السفر فلا نستطيع رؤيتهم أو اللقاء بهم" وأضافت: "كان ذاك همي.. غير أن مازن (كمّل) لي حياتي كلها.. كان بمثابة كل شيء لي.. أباً وأماً وأخاً وأختاً وكل شيء في حياتي.. فإن كنت أقف أمامكم الآن بهذه القوة والثبات فذلك لم يكن قبل أن أتزوج مازن.. أنا كنت بنتاً عادية تحمل الخوف والقلق حتى أني كنت أخشى العتمة لكنه صنع مني امرأة قوية حكيمة، وإنني أقولها لكنَّ جميعاً فالتي تريد اختيار الزوج عليها أن تختاره مخلصاً وفياً لوطنه لأنه سيكون مخلصاً وفياً لها".
تلك السجايا والخصال التي تكلمت عن جزء يسير منها زوج الشهيد مازن الفقهاء تكشف فيما تكشفه عن مزية عظيمة أهَّلت الشهيد لنيل الاصطفاء الرباني من خلال نيله درجة الخيرية التي حثّنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". ولله درّه فقد كان من آخر أعماله إدخال السرور على أهله بمشاركتها حفل تخرجها، بل إن آخر لحظات في حياته كان قد قضاها معهم في نزهة على شاطئ بحر غزة أدخل فيها السعادة على نفس زوجه وابنه وابنته ثم مضى سعيداً بلقاء ربه.
تلك الخيرية لم تقف عند برّه بأهله، فقد حاز الخيرية مبكراً عندما اجتهد في حفظ كتاب الله فتم له ذلك في سن مبكرة وبالسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أظهرته وكشفته شهادته تلك الإجازات التي أعطاها بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخوانه رفقاء سجن نفحة الصحراوي وسجن رامون..
نال خيرية تعلم القرآن وتعليمه كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".. فكيف بمن تعلَّمه وهو يطارد العدو ويطاردوه، والذي علّم القرآن في السجون والمعتقلات.
لا عجب أن ينال مرتبة الشهادة وقد سعى أن يكون من أهل الله وخاصته كما في الحديث الصحيح: "إنَّ للهِ تعالى أهلِينَ من الناس: أهلُ القرآنِ، هم أهلُ اللهِ وخاصتُه". لا عجب إذن أن يكون إماماً في الشهادة بعد أن تأهل للإمامة في الصلاة التي هي عمود الدين كما ورد في صحيح مسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله".
إن البصمات التي تركها الشهيد تشهد له بالخيرية التي حدّث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من خيرِ معاشِ الناسِ لهم، رجلٌ ممسكٌ عنانَ فرسِه في سبيلِ اللهِ. يطيرُ على متنِه. كلما سمع هيعةً أو فزعةً طار عليه. يبتغي القتلَ والموتَ مظانَّه". إنه الذي هندس لعمليات استشهادية زلزلت الكيان الغاصب منها عملية الثأر لاستشهاد القائد القسامي صلاح شحادة وخاض العديد من المعارك والمواجهات مع جيش الاحتلال في أنحاء الضفة المحتلة إلى جانب الشهيدين القساميين أشرف دراغمة ومنقذ صوافطة والشيخ الشهيد نصر جرار.. وهو الذي طاردته أجهزة السلطة الفلسطينية ولم يثنه الاعتقال والتعذيب في سجونها عن مواصلة طريق الجهاد، كما لم تكسر إرادته الأحكام العالية التي بلغت تسع مؤبدات وخمسين عاماً قضى منها عشر سنوات بلياليها، ولم يزده تدمير الاحتلال بيت أهله في طوباس أو وضعه في العزل الانفرادي وتعذيبه بأشد ألوان التعذيب إلا ثباتاً وإصراراً على مواصلة طريق الجهاد.. حتى إذا خرج في صفقة وفاء الأحرار أمسك عنان فرسه في سبيل الله بغزة العزة يطير على متنه يبتغي القتل والموت مظانه ولا يبالي بالاتصالات التي حاول العدو إخافته وتهديده بالقتل والموت.. إلى أن لقي الله يوم الجمعة خير يوم طلعت الشمس فيه، وعلى أرض تخضبت بدماء الشهداء الأبرار وارتفعت عليها راية عز شامخة وفخار في زمن ذلِّة وصغار.