سأقوم باستعراض أربعة أسئلة أساسية في أربعة مقالات، مع بيان كيف أن الاشتغال التطبيقي بها كفيل بضبط بوصلة سعيك في #الحياة عامة بأمر الله.
وفي هذا المقال الأول، سأتناول ما يتعلق بالسؤال الوارد في العنوان، ما الذي كلفك به خالقك؟ لأن الاشتغال بجوابه يضبط ثلاثة مفاهيم أساسية في السعي:
• القيمة الأصلية والقيمة المضافة: لا فرد مهما صغر صغير من حيث الأصل، لأن قيمتك وكرامتك كمخلوق مستمدة من حقيقة أزلية هي أن الله لا يخلق شيئاً ولا شخصاً عبثاً، حتى الحائدون عن أمر الله تعالى لهم وظيفة بدونها يختل ميزان هذا الكون كاختبار مؤقت، وهي في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، وقوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165].
ومن هنا فلا ينبغي أن يستصغر المرء نفسه استصغارا يمنـعه أن يكتسب قيمة مضافة إلى جانب قيمته الأصلية، أو يظن أنه بغير مجموعة أو تكتل لا يمكنه تحقيق شيء يذكر، والتاريخ عامر بسير مشاعل الإنسانية الذين كانوا في البداية أفراداً قبل أن يصيروا في النهاية أمماً .
كل المواثيق والعهود التي أخذها سبحانه على المؤمنين خلاصتها ركنان فحسب: أن يؤمنوا، ثم يعملوا تصديقا لذلك الإيمان
• أدوار البطولة: عندما نتأمل في القاعدة النبوية "لا تحقرن من المعروف شيئاً" نجد أن صيغة النهي في الحديث قاطعة. والتنكير في كلمة "شيء" يفيد مطلق المعروف، أي معروف وأي خير وأي نفع. وعندما نتأمل في كتاب الله تعالى، نجد أن كل المواثيق والعهود التي أخذها سبحانه على المؤمنين خلاصتها ركنان فحسب: أن يؤمنوا، ثم يعملوا تصديقاً لذلك الإيمان. لم يطالبنا الله مطلقا بضمان الأثر ولا حتى شهوده، بل إن قضية الإيمان نفسَها وهي قضية الوجود الكبرى تقوم على "الغيب"، فأنت لا ترى عِياناً ما تؤمن به في هذه الدنيا، ولا تشهد حقيقة ثمار إيمانك هنا، ولا تجني حقيقة عواقب أفعالك بعد.
وقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان ممن آمنوا به، ومن الأنبياء من يأتي وحده ليس معه أحد . أولئك الأنبياء أكرم الخلق على الله وأرفعهم درجة بلا مِراء، مع ذلك لم يمنحوا امتيازاً خاصا بضمان أثرهم أو سعة نفوذهم أو كثرة أتباعهم! وكذلك لم ينتقص انعدام الأثر أو الأتباع من قيمة المجهود وأداء أمانة النبوة عند الله وفي ميزان الله.
من جهة أخرى مثل هذا الاستصغار قد يكون مدخلا أو انعكاسا لآفات خفية في النفس، كأن يكون مدخلا من مداخل الشيطان بتحقير ما تعمل من الصالحات في نظرك لِيَحْزُنك، فيثبطك عن المزيد، بل مع الوقت يثبطك عن الأصل، حتى يلقي بك في دوّامات الاكتئاب والعجز والسلبية. أو يكون الاستصغار مدخلا لحظ من حظوظ النفس بعكس ما يحسب صاحبها من أنه يقلل من قدر نفسه: فهنالك فارق بين حرصك على النفع وتطلعك للإبهار، واستصغارك لهيلمان أثرك وقلة المصفقين أو المتابعين لك في جنب ما تشعر أنك مستحق له بما عندك من طاقات وعلم، نسيت أنها في الحقيقة هبة وأمانة من عند الله.
الأنبياء أكرم الخلق على الله وأرفعهم درجة بلا مِراء، مع ذلك لم يمنحوا امتيازا خاصا بضمان أثرهم أو سعة نفوذهم أو كثرة أتباعهم
وختام هذا البند أن الاستصغار الصحيح هو أن تستصغر قدر عملك في جنب الله تعالى وحقه عليك، وهذا لازم في كل عمل تعمله مهما كبر، لأن عملك لن يكون أبدا مكافئاً لفضل الله تعالى عليك، ولا تفضلاً منك عليه سبحانه، ولا حتى جواز استحقاق لجنته ورضوانه. وإنما غاية عملك أن تُريَ الله تعالى من نفسك الصدق في عبوديتك له رغبة ورهبة، ومحبة وخشية.
تذكر دائمًا أن العمل لله ليس فيه أدوار بطولة وأدوار ثانوية، بل كله لله ومن هنا فكله مطلوب .
• تكلف واجبات ومسؤوليات متوهمة: إذا كان الله تعالى قد خلقنا وبين لنا مراده من خلقنا، فلا ريب أنه أتم ذلك البيان بتشريع متكامل يؤطر هذا التكليف وينظم علاقاته ومعايير الحكم فيه، بحيث يجعل لكل شيء من الأشياء قدره ووزنه كما أريد منه وبه وله. لكننا كثيراً ما نترك هذا البيان وراء ظهورنا، ثم نحن نشغل أنفسنا بما ليس مطلوبا منها، ونكلف أنفسنا فوق وسعها ما لم يأمر به الله . ومن نماذج هذا التكلف ما ذكرناه من كثرة القلق على النتائج والاغتمام بحسابات التأثير وكل المطلوب هو التركيز على السعي ومدى خلوصه.
غاية ما أنت مكلف هو حسن الخلق وحسن المعاملة، وهذه لها تفصيلاتها البينة في الشرع لمن طلب العلم بها، ولا عليك بعد ذلك من أحبك أو كرهك أو نفر منك أو حقد عليك
ومن النماذج الشائعة كذلك لهذا التكلف شدة الاشتغال بقضايا الحب والبغض، تحت الشعار المستهلك "الكل يحبني ولم أعتد أن يزعل مني أحد أو يكرهني". وهذا من الوهم البيّن لأنه لم ولن يجتمع البشر على محبة شخص، ولا جاء من الله أمر بضرورة أن تهوي إليك الأفئدة! وإلا كان الانبياء أولى الناس بذلك! وإنما غاية ما أنت مكلف هو حسن الخلق وحسن المعاملة، وهذه لها تفصيلاتها البينة في الشرع لمن طلب العلم بها، ولا عليك بعد ذلك من أحبك أو كرهك أو نفر منك أو حقد عليك.
فإذا كانت القلوب أسرع تقلباً من القِدْر في غليانها كما في الحديث، وإذا كنت لا تملك زمام قلبك إلا بالاستعانة بالله عليه، فأنى تطمح أو تطمع لملك زمام الآخرين؟ وفي هذه التطلعات والمفاهيم من حظوظ النفس والتطلع للمكانة ما لا يخفى.