وفي الصلاة حياة

الرئيسية » خواطر تربوية » وفي الصلاة حياة
Muslim man praying on an empty dock

توقفت كثيراً عند جملة طالما شغلتني وهي "الحياة في محراب الصلاة"، إن المتأمل في تلك العبارة ليجد بالفعل أن الصلاة تلزمها حياة مستقلة في وقت متخصص حدده الله عز وجل بمطلق معرفته كميقات معلوم ومحدد للدخول في تلك الحياة، وكثيرون تحدثوا عن تلك الحياة الخاصة، تلك التي نطرح فيها الدنيا خلف ظهورنا بمجرد تكبيرة الإحرام معلنين أن "الله أكبر"، حياة كاملة يحياها المسلم "المقيم" للصلاة وليس "المؤدي" لها، وبمزيد من التأمل وجدت أن هناك حياة أخرى تمنحها الصلاة بعد أدائها وليس فقط ذلك الوقت الذي تقيمها فيها، حياة بمعناها الحي المتكامل لا ينالها سوى ذلك الذي استطاع أن يحيا داخل محرابها، فهي مرحلتان إذن:

الأولى: أن تحيا في الصلاة.

الثانية: أن تحيا بالصلاة.

ولن تستطيع أن تحيا بها، حتى تحيا فيها، تحيا فيها حين تنتظر الصلاة إلى الصلاة، تحيا فيها حين تهرع إلى الوضوء قبل النداء الرباني لها، تحيا فيها حين تنفصل تماما عن عالمك وتصير جزءاً من عالمها لتحقق فيها كل أركان الإسلام طواعية بجوارحك وقلبك وروحك ونفسك في تناغم مع حركة الكون المسبح بحمد ربه.

عالم ليس كعالمنا، بل هو سر عالمنا ومنبع وجوده، هو الصلة البالغة بك لرحاب السماء ورحابة العبودية المهدية، ليست تلك الحركات المجردة التي يؤديها الناس كل يوم من صبح حتى العشاء وتكون الحصيلة فيها لا شيء، فنجد التاجر الذي يخرج من المسجد بعد الصلاة ليعود إلى عادته في غش الناس، ونجد الطالب الذي يخرج من المسجد بعد الصلاة ليهرب من المذاكرة ويتطاول على أستاذه، وربما على أبيه وأمه، ونجد الأستاذ الذي يخرج من المسجد بعد صلاته ليحث الخطى إلى الدروس الخصوصية؛ لأنه لم يبذل ما عليه في المدرسة، والعامل..، والفلاح..، والمسئول..، وغيرهم.

إننا نتحدث عن "الصلاة التي تنقلك من ضيق الدنيا لرحابة ملكوت الله فتخرج منها طاهرا مطهرا غير ذلك الذي كنت عليه قبلها

ليست تلك الصلاة التي نود أن نتحدث عنها في سياق كلامنا هنا، إننا نتحدث عن الصلاة التي تنقلك من ضيق الدنيا لرحابة ملكوت الله فتخرج منها طاهرا مطهرا غير ذلك الذي كنت عليه قبلها، صلاة وكأنها صلاة المودع، الصلاة الأخيرة لك وهكذا كل صلاة، صلاة خاشعة خاضعة بين يدي الله عز وجل، صلاة تصليها وأنت واقف على الصراط من تحتك النار وأمامك الجنة تشم ريحها وتراها وتطمع بها، ترى أقوامًا يعبرون بجوارك منهم من يعبر كالريح ومنهم كطرفة العين ومنهم كالسلحفاة ومنهم من يقع وأنت متشبث بحضورك مع الله خوفا من أن تنشغل بأمر من أمور الدنيا فتزل قدمك بعد ثبوتها وتنهار من فوق الصراط في غير أمل لك في الرجوع.

يقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وظاهر الأمر الوجوب، والغفلة تضاد الذكر، فمن غفل في جميع صلاته فكيف يكون مقيمًا للصلاة لذكره؟!

وقال صلى الله عليه وسلم: (كم من قائم حظه من صلاته التعب والنصب) "أخرجه النسائي"، وقد نُقل عن بشر بن الحارث فيما رواه عنه أبو طالب المكي عن سفيان الثوري، أنه قال: "من لم يخشع فسدت صلاته"، وروي عن الحسن أنه قال: "كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع".

الطريق إلى إقامة الصلاة:

البداية طهر، طهر ظاهر وطهر خفي، ملابسك طاهرة، المكان الذي تصلي فيها طاهرا، لا يحمل زخارف الدنيا وملهياتها، قلبك من الحقد والحسد والغل والكراهية طاهرا، إذ كيف تلقى ربك وتتعهد له بالعبودية وترجوه رحمته وتستعيذ من سبيل المجرمين، ثم أنت تحمل بين صدرك طباعهم وخصالهم؟!

كيف تلقى ربك وتتعهد له بالعبودية وترجوه رحمته وتستعيذ من سبيل المجرمين، ثم أنت تحمل بين صدرك طباعهم وخصالهم؟!

كبِّر "الله أكبر" وارْفع يديك واطْرح الدنيا كلها خلف ظهرك، واسْتحضر بقلبك الكلمات والمعاني، اطْرح الدنيا وكبر فالله أكبر منها، همومك، أولادك، عملك، أهلك، الأموال، الفقر، كل شيء الله أكبر منه، وما أنت مقبل عليه من لحظات وأنت واقف بين يدي المولى أهم بكثير من كل شيء، لا تخش فكل شيء ستعود إليه بعد الصلاة لتجده على حاله، ولكن ستجد شيئًا آخر قد تغير، إنسانًا آخر قد ولد من تلك الصلاة، همَّة عالية، ونفساً أبية، وروحاً طاهرة وعقلاً متوقداً ورضًا وسعادة وطمأنينة.

تكبير وتسمية وحمد "الحمد لله رب العالمين" إن كنت مريضًا فأنت تقولها، إن كنت مبتلًى فأنت تقولها، وإن كنت غنيًّا فأنت تقولها، على كل حال نقول "الحمد لله"، وكلنا عنده ما يحمد الله عليه، ابحث في نفسك ستجد أن وقوفك "مجرد أن سمح لك بالوقوف بين يده "يستحق الحمد"، نعم إنها نعمة وأيُّة نعمة، حرم منها الكثيرون، ألا ترى أن هناك ملايين الملايين من غير المسلمين أنت لست بينهم؟ ألا ترى أنه هناك الملايين من المسلمين الغافلين أنت لست بينهم؟

اسْأل ما شئت، فإنه سيجيب ولا تحمل هم الإجابة ولكن اسأل بصدق، اسأله بحضور قلب وعقل، اسأله رضاه والجنة، اسأله أن يصرف عنك البلاء، اسأله أن ييسر لك أمرك فهو الغني، فقط يريدك أن تسأله، مجّده وأثن عليه وقل "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين" حمدته، وأثنيت عليه، وملكته، إذًا فتوجه إليه وحده بالعبادة بمنتهى الاسْتسلام: "إياك نعبد وإياك نستعين"، نستعين بك يا ربنا على عبادتك ونستعين بك على أنفسنا ونستعين بك على الشيطان ونستعين بك على المستبدين، ونستعين بك على الظالمين ونستعين بك على حوائج الحياة، نستعين بك وحدك فلا أحد يقدر غيرك وليس لنا سواك، نستعين بك أن تهدنا "اهْدنا الصراط المستقيم" الصراط الذي ترتضيه لنا وارْتضيناه لأنك ارْتضيته لنا.

"صراط الذين أنعمت عليهم" من النبيين ومن الصحابة الأولين ومن أنعمت عليهم بدينك فاهدنا صراطهم، وساعدنا على أن نسير على خطواتهم "غير المغضوب عليهم"، من اليهود، "ولا الضالين" الذين بدلوا من النصارى.

ثم كبر "الله أكبر" هل يمكن أن نحيا تلك اللحظات الغالية بهذا المعنى؟ وهل يمكن أن تأخذنا الدنيا الفانية من بين يدي الله؟ إن كانت قد استطاعت أن تأخذك لحظات فعُدْ وكبر "الله أكبر" ثم ارْكع وقل "سبحان ربي العظيم" ثلاثًا، ذكر نفسك بها، بعظمة الله سبحانه وها نحن الآن نحني رؤوسنا وظهورنا إعظامًا لشأنه، ثم نعتدل ونقول "سمع الله لمن حمده" ونحمد حمدًا يليق بمقامه، ألم نتفق أنه وحده المستحق للحمد؟ "حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يرضيه وحمدًا يليق به، حمدًا كما بين السماوات والأرض وبعدد الخلق.

هل اعْترانا فتور؟ هل أخذتنا الدنيا؟ كبر وقل "الله أكبر" ثم "اسجد واقترب"؛ أتدري أنك أقرب ما تكون من ربك وأنت ساجد؟ مرِّغ جبهتك بين يديه وقل "سبحان ربي الأعلى" مهما علا شأنك ومهما بلغت منزلتك جبهتك الآن في التراب ذليل ضعيف، مستسلم مستكين كل ذلك لمن؟ لله وحده، لله الأعلى، فسبحانك يا من أنت الأعلى سبحانك يا ربي.

ابْكِ، ادْعُ، اسْأل، فأنت قريب، قريب منه ولن يخذلك، ولن يضيعك، ادْعُ لنفسك ولأولادك ولأمتك الجريحة "أمة الإسلام" التي أمست بلا إسلام، ادْعُ بما شئت وأنت قريب.. ولكن إياك وأنت قريب أن تبتعد وتأخذك الدنيا في لحظة الله مقبل عليك فيها والخسارة الكبيرة أن لا يجدك؛ حيث يريدك، وإن حدث فكبر "الله أكبر" وادْع بين السجدتين واطْلب منه المغفرة على أي تقصير يكون قد بدر منك واطْلب منه أن يسامحك ويرحمك ويرزقك "اللهم اغْفر لي وارْحمني واهْدني وعافني وارْزقني"، ثم كبر "الله أكبر" ثم عُدْ للسجود بين يديه، عُد بشوق المحب للقاء حبيبه، عُد واقْترب فليس أقرب إلى الله من السجود، وحين تفهم، وحين تتعايش مع تلك اللحظات الغالية فاحْسب أنك ستتعجل صلاتك كلها حتى تصل إلى لحظة السجود، تلك اللحظة التي وكأنك تنفرد بها مع رب العالمين تبثه شكواك ونجواك فلا يدري بك أحد ولا تشعر أنت بأحد حتى ولو كنت في وسط الجموع.

ولا تنس أنك بعد السجود ستعود مرة أخرى تكبر وتحمد وتذكر إلى أن تجلس في النهاية بأدب الحضور مع الله تحييه "التحيات لله والصلوات والطيبات"؛ أنت الآن تتحدث مع مولاك فإياك أن يتشتت فكرك إلى غيره أن تتحدث إليه ليس هذا وفقط وإنما تسلم على حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".

بالله عليك جلسة هذا شأنها كيف تكون؟ الله عز وجل، ثم السلام على النبي وانْتظر، انْتظر حتى يرد عليك السلام فتقول- وأنت مستشعر أننا أمة وحدة كاملة لا أمة أفراد متفرقين كل في حاله-: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، في كل مكان أينما كانوا وفي أي زمن كانوا، ثم تصلي وتسلم على محمد وعلى آله وصحبه الكرام وتصلي وتسلم على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ثم تسلم وتعود إلى الدنيا، كيف أنت الآن؟ إن كنت قد خرجت كما دخلت فما صليت.

وأخيرًا، قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل، فإنَّه تكفير للخطايا والذنوب، ودأب الصالحين قبلكم، ومطردة للداء عن الجسد". (رواه الترمذي والحاكم)

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة مصرية، مهتمة بالشأن الإسلامي العام، حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة، وكاتبة في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، لها العديد من المؤلفات المنشورة، مثل: المنهاج في الدروس المسجدية للنساء، معالم على طريق التمكين الحضاري، وأبجديات الثورة الحضارية وغيرها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …