إنَّ مسألة (إدراك الواقع) تعدُّ ركناً أساسياً من أركان الإفتاء في كل زمن ومَصر، ذلك أنَّ النَّصوص التي تستند إليها أيّ فتوى متناهية ومحصورة، بينما الحوادث والوقائع التي تحتاج إلى الفتوى غير متناهية ولا محصورة؛ لأنَّها متعلقة بالفعل البشري، وهو لا يتناهى إلى يوم القيامة.
يقول الإمام القرافي مؤكّداً هذا المعنى: "فمهما تجدَّد من العُرف؛ اعتبِرْه، ومهما سقط؛ أسقِطْه، ولا تجمُد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك؛ لا تُجرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمقررِّ في كتبك، فهذا هو الحقُّ الواضح".
ومن الكتب التي صدرت حديثاً، وبحثت مسألة (إدراك الواقع) وعلاقته بالفتوى، كتاب (إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى، الفتوى الاقتصادية نموذجاً). للدكتور محمد محمود الجمال، حيث يعرض فيه أهمية إدراك الواقع والنظر في متغيّراته ومناهجه، والإحاطة بأثره في ضبط الفتوى، التي تتغيَّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال والنيّات والعوائد؛ فإلى التفاصيل:
مع الكتاب:
أكَّد المؤلف أنَّ هذا النوع من الفقه أصبح علماً أصيلاً، تبنى على إدراكه الأحكام، وتتخذ في ضوئه المواقف، فهو علم بحقائق الأشياء، وعلاقات الأفراد بالقدر الذي يمكن الفقيه من تصور محل الحكم، وتنزيله عليه، وتجنب "الرؤية النصفية"، التي تكتفي بالوصول إلى معرفة الحكم الشرعي دون بذل الجهد في دراسة محل الحكم، والنظر في تركيباته المعقدة.
وأوضح أنَّ الفقه يتطوّر بتطور الواقع، ويتأثر به، مثلما يؤثر فيه، ويأخذ منه مثلما يعطيه، ويتكيف معه مثلما يكيفه ويوجهه، دون أن يعني ذلك خضوع الفقه للواقع وإنما أن يكون الفقه واقعيا، والاجتهاد لا يقف عند معرفة مراد النص الشرعي وإدراك علته فقط، وإنما يتعدى ذلك إلى تحقيق المراد في الواقع، "والدلالة الواقعية بما تحمل من معاني معرفة الواقع التنزيلي للنصوص تأتي في مقدمة الدلالات المطلوبة لذلك".
وعرض المؤلف في الكتاب لمفهوم الواقع، وأهمية إدراكه، وقيمة فقهه، ومنهجية التعامل معه، وأهم دلائل النبوة على ذلك، سواء على مستوى الأجوبة المختلفة عن السؤال الواحد المتكرر، أو إدراك النبوة لمهارات الصحابة، أو على مستوى الدبلوماسية النبوية وإرسال النبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام الرُّسل إلى الملوك وزعماء القبائل، وهديه في استقبال الوفود وإكرامهم.
وشرح المؤلف سبب اختياره (الفتوى الاقتصادية) نموذجاً بالقول: "في واقعنا المعاصر، وجدت مسائل وقضايا لم يسبق وجودها في تاريخنا الفقهي نتيجة التطوّر الفكري والتقدّم التكنولوجي، لاسيّما في المجال الاقتصادي؛ ولهذا اشترط في الفقيه: أن تتوافر عنده الأهلية العلمية اللازمة للقدرة على إصدار حكم شرعي، وذلك بالتصوّر الصحيح المطابق للواقع للمسألة محل الحكم، مع إدراكه التام للنص الشرعي، الذي يمكن تنزيله. ومن هنا اخترت أهم القضايا الاقتصادية المعاصرة كنماذج لانضباط الفتوى الاقتصادية بحسن إدراك واقعها، كقضية (توزيع الفائض في شركات التأمين)، و(ضمان المصرف للأضرار الناشئة عن سوء استثمار أموال العملاء)، و(تداول صكوك الإجارة الموصوفة في الذمّة)، و(عمليات التحوّط في المصرفية الإسلامية).
واشتمل الكتاب على مقدّمة، وأربعة مباحث، وخاتمة، تناول المؤلف في المبحث الأوَّل: مفهوم إدراك الواقع، ومنهجية التعامل معه. حيث عرّف (فقه الواقع) بعد استعراضه مجموعة من تعريفات العلماء السَّابقين والمعاصرين؛ بقوله: "العلم بحقائق الأشياء، وعلاقة الأفراد بالقدر، الذي يمكّن الفقيه من تصوّر محل الحكم".
وتناول فيه هذا المبحث أهم ملامح منهجية التعامل مع الواقع: فمن أبرز تلك الملامح: قاعدة (الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره)، وقاعدة (اعتبار مآلات الأفعال)، وقاعدة (يُختار أهون الشرّين)، وقاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة حتّى يدلّ الدليل على التحريم).
وفي المبحث الثاني، تناول فيه أهمية إدراك الواقع، حيث أكَّد أنَّ الاجتهاد لا يقف عند معرفة مراد النصّ الشرعي وإدراك علّته فقط، وإنَّما يتعدّى ذلك إلى مرحلة أخرى وهي تحقيق ذلك المراد في الواقع؛ لأنَّ لأدلة الأحكام اقتضاءين مختلفين، اقتضاء تجريدياً مفصولاً عن اقتضاءات الواقع، واقتضاءً مركباً من اقتضاء الخطاب الشرعي واقتضاءات الواقع المراد تنزيل النص فيه.
ويخلص إلى أنَّ اعتبار الواقع يؤكّد على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويحقّق المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، والجهل بالواقع والغفلة يؤدّي إلى سيادة الجمود والتحجّر والانغلاق، وتغييب سعة الإسلام ورحمته واندثار مقاصده.
أما المبحث الثالث، فتناول فيه أهمَّ دلائل النبوة على إدراك الواقع، كان من أبرزها (الأجوبة المختلفة عن السؤال الواحد المتكرّر)، و(إدراك النبوة لمهارات الصحابة -رضوان الله عليهم-)، و (الدبلوماسية النبوية).
وفي المبحث الرَّابع والأخير، تناول نماذج لانضباط الفتوى الاقتصادية بحسن إدراك واقعها. يقول المؤلف: "يمكننا في هذا الصدد دراسة قضايا: مدى مشروعية إعداد رباط الخيل، وتقسيم الغنيمة على المجاهدين، والجزية على الأقليات غير المسلمة في الدول الإسلامية المعاصرة، وقضية العاقلة، ..).
مع المؤلف:
هو محمد محمود محمد الجمال.
من مواليد جمهورية مصر العربية.
أستاذ الفقه المقارن المشارك بكلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة – قطر.
أشرف على العديد من رسائل الماجستير.
له العديد من الكتب والبحوث العلمية، منها: (منهج الفتوى في قضايا السياسة الشرعية المعاصرة - الحرية وتطبيقاتها: قراءة في الفقه الإسلامي المقارن – القيمة الاقتصادية للزمن في المعاملات المالية المعاصرة – تطبيقات العرف في المعاملات المالية المعاصرة : دراسة مقارنة...).
بطاقة الكتاب:
العنوان: إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى – الفتوى الاقتصادية نموذجاً.
المؤلف: د. محمد محمود الجمال.
دار وسنة النشر: إدارة البحوث الإسلامية في قطر – كتاب الأمَّة 174- 1437هـ.
عدد الصفحات: 172 صفحة.