انشغل العرب بنتائج استفتاء الرئاسة في تركيا، وكان الكثير يشيد بها فيما انبرى قليل للتقليل من شأنها وأهميتها. لا عجب أن يتغنى العرب بالديمقراطية التركية، فهم الذين أجهضت ثوراتهم وأحبطت آمالهم بالحرية بعد زمن طويل من تسلط الحكام وديكتاتوريتهم، ولكن تعويلهم الزائد على النجاح التركي وإن كان ينم عن أشواق الحرية المسروقة في بلداننا، فإنه لا يحل مشاكل العرب مع أنظمتهم التي انقضت على الثورات فأجهضتها، ويبقيهم في إطار الأحلام والتمنيات.
لا يزال هناك فارق كبير بين ديمقراطية تركيا التي يصبو إليها العرب وبين ما نحن فيه من ديكتاتوريات مسلحة أو جمهوريات ومشيخات وممالك تحارب وتقاوم أي تغيير أو تحاول إعطاء الشعوب حريتها. فهذه الأخيرة -إلا قليل منها- لا تعرف عن الديمقراطية والانتخابات شيئا، ولا تعترف بالممارسة الديمقراطية للشعوب، بل وإن كثيرا منها يستخدم العنف والقهر لمنع أي صوت معارض في أن يقول كلمته في الوضع المحلي أو العربي.
لم تكتفي هذه الأنظمة بمحاربة التغيير في بلدانها بل سعت لمحاربة وتشويه الديمقراطية التركية خشية أن تؤثر على الأوضاع في بلدانها وتشكل دعما للإسلام السياسي المحارب بها
وبعض هذه الدول (سوريا) قاوم بالحديد والنار مطالب بسيطة بالحرية واستدعى حلفاءه من الإيرانيين وميليشياتها لهزيمة الثورة المسلحة في البلاد نتيجة رفض مطالب حركة الجماهير السياسية، ثم ما لبث أن استدعى روسيا بعد أن فشل الإيرانيين وميليشياتهم في وضع حد للثورة المسلحة! وفي مصر انقلب العسكر على أول رئيس مدني منتخب وفتحوا السجون والمعتقلات للإخوان المسلمين ونفذوا مذابح جماعية بحقهم كما حصل في ميدان رابعة.
ولم تكتفي هذه الأنظمة بمحاربة التغيير في بلدانها بل سعت لمحاربة وتشويه الديمقراطية التركية خشية أن تؤثر على الأوضاع في بلدانها وتشكل دعما للإسلام السياسي المحارب بها. والبعض من مسوقي هذه الأنظمة بدأوا يتكلمون عن أن نتائج الاستفتاء ليست حاسمة وأنها تعبر عن انقسام حقيقي في الشعب، متناسين أن هذا الخلاف طبيعي في أي دولة ديمقراطية وأن الكثير من الديمقراطيات تحسم نتائجها بأغلبية بسيطة. البعض الآخر يتحدث -ويا للعجب- عن سماح النظام الرئاسي لأردوغان بأن يصبح ديكتاتورا وكأن هؤلاء المتكلمين يعيشون في ديمقراطية غربية لا في بلد عربي يحكمه ديكتاتور أو معادي للديمقراطية!
وأصبحنا في هذا الإطار بين منظر للتجربة التركية بأنها الوصفة المناسبة للخلاص من الديكتاتوريات العربية، أو على الأقل تظل نموذجا يحتذى للعرب، وبين من يسفه هذه التجربة ويبدي خوفه على الديمقراطية ولسان حاله في بلده يشير إلى ديكتاتورية مقيته.
والحقيقة أن الوضع العربي فيه من الإمكانات ما يجعله منافسا للتجربة الديمقراطية التركية، لو فتحت الأنظمة المجال لذلك أو تخلت عن الحكم ليمارس الشعب بنفسه تجربة مقننة من هذا القبيل. صحيح أن هناك استهداف للوضع العربي ورغبة الغرب والولايات المتحدة تحديدا ببقاء الأنظمة الديكتاتورية لأنها الوحيدة المؤهلة لتقديم التنازلات للغرب بدون محاسبة أو رقابة شعبية.
تبقى ظلال التجربة التركية تشجع التغيير في العالم العربي، وتشكل ملجأ للكثير من القيادات الإسلامية التي لوحقت وطوردت في دولها
تحتاج الشعوب إلى وقت لكي تصل إلى الحالة الديمقراطية، وعليها أن تخوض معركة طويلة من أجلها، وإذا كان تم إجهاض الثورات العربية في مهدها، فإن هذه الشعوب لا تزال تتطلع لحريتها وتجاوز الوضع الذي هي فيه. وفي هذا السياق، هناك حاجة لدمقرطة حركات التغيير التي يعاني الكثير منها من ديكتاتورية صغيرة، ولكن هذه المهمة ليست عسيرة ولا بعيدة عن التحقق طالما توفرت الإرادة لذلك.
وفي هذا الوقت، تبقى ظلال التجربة التركية تشجع التغيير في العالم العربي، كما أن هذه التجربة لا زالت تشكل ملجأ للكثير من القيادات الإسلامية التي لوحقت وطوردت في دولها، حيث يمكنها من هناك ومن وجودها بالداخل من إعادة بلورة التحرك السياسي الجماهيري لمواجهة أنظمة الحكم (كنظام السيسي) وفرض الحكم الديمقراطي مكانه.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة