كثيرون يتذكرون أن أول أمر قرآني نزل كان "اقرأ"، لكنهم لا يتمّون الصورة كاملة. تأمل فيما فتح الله به على الأديب خالد محمد خالد في كتابه "الوصايا العشر":
{اقرأ باسم ربك الذي خلق} كانت #القراءة التي يعنيها الوحي، هي العلم والمعرفة والحكمة التي يجب أن يدركها الإنسان... ولم تكن هذه القراءة لمجرد الإمتاع أو لمجرد المعرفة، فهذه الأمة منذ ولادتها على يد رسولها -صلى الله عليه وسلم- لا تعرف الغايات الصغيرة المحدودة، إن كل غايتها تصب في اتجاه واحد. إنها تقرأ -بمفهوم القرآن- لتتعلم، وتتعلم لتتحرك، وتتحرك لتُبلّغ رسالة الله وتُطبق منهجه في الحياة. فمنذ اللحظة الأولى في تكوين الأمة يتبين لنا الغاية: {اقرأ باسم ربك}، اقرأ في سبيل هذا الرب، لا من أجل أي شيء آخر، من أجله هو وحده بلا شريك، حتى تثمر تلك القراءة المنهج الرباني الصحيح، الهادي إلى سبيل الرشاد..." ا. هـ.
إن مفهوم #الثقافة والاستزادة من العلم في التصور الإسلامي، هو الثقافة المسؤولة، الموصولة بالله والموصِلَة إليه، فالله خالقنا وصاحب منّة الوجود علينا ابتداء، وإليه نرجع، وأمامه نوقَف ونسأل، فكيف تكون بغير اسم الله؟ بهذا القصد وبهذا التصور، يكون مفهومنا للثقافة أنها ثقافة مسؤولة، أي أننا مسؤولون عنها، يوم الحساب الذي لابد نحن بالغوه مهما امتدت بنا الحياة: "لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَلَ عن شبابِه فيما أبلاه، وعن عُمُرِه فيما أفناه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيما أنفقَه، وعن عِلمِه ماذا عمل فيه".
إن مفهوم الثقافة والاستزادة من العلم في التصور الإسلامي، هو الثقافة المسؤولة، الموصولة بالله والموصِلَة إليه
ومفهومنا عن العلم والثقافة يسهم حقيقة بطرف في كل الأسئلة: فحين نسأل عن أعمارنا فيم أفنيناها وشبابنا فيم أبليناه، فجزء كبير من ذلك ننفقه في التعلم والمعرفة، وحين نسأل عن المال فيم ننفقه، فجزء كبير منه كذلك ننفقه على وسائل طلب العلم والمعرفة.
الثقافة التي نقصدها في هذا السياق هي إذن: "مجموع العلوم والآداب والفنون وكافة المعارف التي يحتاج العلم بها، لطلب حكمة وتبين حق، أو دفع جهل وإيقاظ وعي؛ وفي كلتا الحالتين يترتب على الطلب أو الدفع عمل وحركة، وإلا ظلت تلك المعارف كعرائس الشمع، لا نفع منها ولا روح فيها، ولا تدب فيها الحياة إلا أن يُعمل بها".
ويقولون: اقرأ في كل شيء!
هل يوحي ما سبق بأن قراءات المرء إذن ينبغي أن تكون كلها سامية راقية نبيلة نافعة؟ هل نتوقف عن الفضل لا نتعداه؟ فماذا عن المواد الخفيفة – تأدبا في اللفظ - أو ما تتداوله المطابع اليوم مما خف ثمنه وغلا سعره؟ ألا يناقض هذا ما ذكر سابقا من أنه يَحسُن بالقارئ أن يكون واسع الأفق، مطلعاً ومُلِماً لمدارك أرحَب؟ فكيف إذن تتسع مداركنا إذا كنا لا نخرج خارج دائرة التصورات التي نعتقدها؟
الجواب على هذا في فهمي بتوفيق الله تعالى ما يلي:
1. مفهـــوم النفع مستمد من نـــوع العمل الذي سيترتب عليه، لا من أساس المادة نفسها . أي أن العبرة بمقصد القارئ (التي أشرنا إليها في الحاجة من طلب حق أو دفع جهل أو باطل). فمن يطالع مثلا كتب العقائد والمِلل والفلسفات المختلفة بقصد الاستعانة على تأييد الحق وردّ شبهات ونحوه -وهو مؤهل لذلك بما لديه من عقيدة سليمة أولاً- فهو عابد لله تعالى بهذه المطالعة وجاهز للرد والمنافحة عن الحق حين يسأل. بل إنه إذا احتيج إلى ذلك النوع من الثقافة ولم يكن من المشتغلين به ما يكفي، كان فرضًا لازمًا على من استطاع.
2. لا بد من الانتباه لمفهوم "المناعة الفكرية": فالذي يبدأ مسيرته الثقافية بالتجول في كلام المفكّرين من كل المذاهب والمدارس، ويقلب فكره في كل ما يقع عليه بصره من مواد، سيقع فريسة لا محالة للبعثرة الفكرية، والتذبذب، والحيرة والشك؛ لأنه لم يعتن بالبنيان من أساسه، كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي مِشيته!
الذي يبدأ مسيرته الثقافية بالتجول في كلام المفكّرين من كل المذاهب والمدارس، ويقلب فكره في كل ما يقع عليه بصره من مواد، سيقع فريسة لا محالة للبعثرة الفكرية
إن الذي ينشغل أول ما ينشغل بالاطلاع على فكر "الآخر"، سواء كان هذا الآخر من نفس بيئته الثقافية وإن اختلفت التوجهات، أو من ثقافة أخرى مغايرة تماما، الذي ينشغل بأولئك أولا يكون كمن يدخل حَجْرا صحيا وليس عليه ثياب عازلة واقية! إنه بهذا يعرّض نفسه للهلاك الفكري والعملي، فالعمل القويم لا ينشأ إلا عن ثقافة راسخة.
والذي يحتج بمعرفة الشر لتوقيه لا للوقوع فيه، لا يمكن له أن يميز الشر أصلا ما لم يكن على دراية بالخير ، وليس دراية علم فحسب بل دراية بصيرة وقناعة راسخة بأصول.
إن طريق البناء الثقافي عامر بالتحديات، ويجدر بالمسلم أن تكون لديه رؤية ناضجة في كيفية التعامل مع هذه التحديات، فإنَّ فيها الحق والباطل الملتبس به، بل وفيها حق وحق أحق منه، ومواجهتنا لهذه التحديات الثقافية تتطلَّبُ منَّا قوَّة عقدية، وركائز ثابتة ومناعة فكرية، فلا يميل المرء مع كل من مال، ولا يتشرب أي فكر من أي أحد.
3. فالخلاصة: لا ينبغي أن يشغل المبتدئ رأسه ويضيع وقته في خلاف ما ينفعه ويفيده، وذلك لأنه في مرحلة بناء الأساس الذي عليه يبني حصيلته الثقافية لاحقا. ومعلوم أن الأساس الذي ينخره السوس آيل للسقوط لا يستقيم عليه بناء مهما ترمم ، فكــــان المنطق أن ينشئ أساساً راسخاً بالتشبع بالنافع المفيد؛ لأنه في مرحلة تشرّب وتأثر لم يبلغ درجة النقد والتمييز والتفضيل. ومن كان طالباً لغير ذلك، كأن يسعى وراء آخر الصيحات وأحدث الموجات، فليفعل ما شاء وهو وما يطلب.. "فهجرته إلى ما هاجر إليه".
4. وبالنسبة لمن قطع شوطاً في البناء الثقافي بمراعاة مراتب الأولويات في العلم، وتكوّنت لديه ملكة الحكم والنقد، وتجاوز مرحلة التشرب والتلقي أحادي الجانب، فهذا لـــــه أن يوسّع القاعدة لتشمل علوم "الآخر"، فقط في حال كان هنالك ما يُلزِمه بذلك: كأن يكون مجال تخصصه النقد أو يحتاج للمقارنة بين نوعين.. إلخ.
وقد قيل لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، "هذا رجل لا يعرف الشر"، قال: "ذلك أحرى أن يقع فيه"، فالمرء ليس فقط عدو ما يجهل، بل قد يقع فريسة له وهو لا يدري ولا ينتبه. وإذا كان من تعلّم لغة قوم أَمِنَ شرّهم، كذلك من اطلع أو ألمّ بشيء من تلك الأصناف الأخرى كان أقدر على الحكم عن بيّنة، والتيقن على بصيرة.
5. أما إن لم يكن هنالك ما يدعو لهذا، فالنصيحة الذهبية لعمر قصير مهما طال، وأوقات قليلة للفراغ مهما اتسعت، هي نصيحة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز". فدع عنك القوالب الجاهزة من مجتمع تشدّه صيحة وتغيّبه موضة، من قبيل "لابد أن تعرف"، و"يجب أن تعلم".. إلخ، فلا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى على عباده. ما عَدَى ذلك هي التزامات شخصية، حسب قدرة المرء واستطاعته، وما أوقفه الله فيه، وهذا كله في جملة ما يسأل عنه ويحاسب عليه، يوم لا يكون للإنسان إلا ما سعى. وكما أنه ليس كل علم نافع، فليست كل قراءة تثقيف، وإننا لا نسأل عن أعمارنا "لماذا" لم نقرأ فيها لفلان أو فلان، بل "ماذا" قرأنا، وفيم أفدنا بما قرأنا.
من المعلوم أنه ليس كل علم نافع، وكذلك ليست كل قراءة تثقيف، وإننا لا نسأل عن أعمارنا "لماذا" لم نقرأ فيها لفلان أو فلان، بل "ماذا" قرأنا، وفيم أفدنا بما قرأنا
6. وننبه على ضرورة ألا يُفتَن الساعي في بناء ثقافته برنين الثقافة والعلم والمعرفة وكافة هذه المصطلحات، بل أن يتريث ويقيس الأمور بالمقاييس التي هو عنها مسؤول ومحاسب، لأنها في النهاية تأخذ من عمره ووقته وشبابه وجهده الشخصي، وإما أن تكون له أو عليه، يوم لا ينفعه تقييم ناقد ولا رأي خبير ولا توصية فهّامة.
ولو تأملنا في دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم، لوجدنا أنه أقر "بالعلم" لكنه لا ينفع، فصفة "العلم" وحدها ليست شرطا لتكون المادة نافعة ، كمن يقول "كله علم" أو "كلها ثقافة"، أو "كل الكتب مفيدة!". بل إن ما يكون نافعاً لشخص قد لا يكون كذلك لغيره، فكل ميسر لوجهة وكل مختص بمسار، والعبرة بالمقاصد، والموفق من وفقه الله.
"لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه".
الخسران الحقيقي هو عدم تحضير إجابات لتلك الأسئلة، لأن صاحبها كان منكفئا على جمع التواقيع ونقاش الترهات وجدال العبث. وتحضير الإجابات يكون بالعمل لا بالتنظير. ومن أين يتسع الوقت لكل شيء؟ وأنّى يتساوى الغث والسمين في الأهمية والاهتمام؟