أتت رواية إبراهيم عيسى الأخيرة "القتلة الأوائل"، لكي تجدد حديثًا قديمًا عن السياقات التي تسعى بها بعض القوى الخارجية والمدعومة من تيارات فكرية بعينها؛ لا نبالغ في القول لو أكدنا أنها تسعى إلى تغيير هوية الأمة، ومسخها.
هذا الحديث يتعلق بالصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والمحاولات الحثيثة من جانب هذه القوى والتيارات، إلى الطعن في مروءتهم، والتشكيك فيما يعرف في العلوم الشرعية، بعدالتهم.
ويقول الحافظ بن حجر العسقلاني إن المراد بالعدل هنا، هو "مَن له مَلَكَه تحمله على ملازمة التقوى والمروءة"، والتقوى هي اجتناب الأعمال السيئة من شِرْكٍ وفسق أو بدعة، كما روى الحافظ بن حجر، أما المرؤءة فيقول فيها الماوردي، إنها "مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها، حتَّى لا يظهر منها قبيحٌ عن قصد، ولا يتوجَّه إليها ذمٌّ باستحقاق".
وهذه النقطة من الأهمية بمكان، لأنها تتصل بقضية أكبر، وهي صحة السُّنَّة النبوية المروية عن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"؛ حيث العامل الأهم الذي ثبَّت ما نعرفه في الوقت الراهن بالسُّنَّة النبوية، وإقرار صحة حديث نبوي، ورفعه إلى الرسول "عليه الصلاة والسلام"، هو عدول #الصحابة الكرام، رضوان الله تعالى عليهم.
بل إن الأمر يخص صحة نص القرآن الكريم كذلك؛ حيث إن النسخة الحالية الموجودة في المصاحف الشريفة في كل العالم الإسلامي، هي المأخوذة من "مصحف عثمان"، وهو المصحف الذي أمر سيدنا عثمان بن عفَّان "رَضِيَ اللهُ عنه"، بنسخه وتوزيعه على الأمصار التي فتحها المسلمون، خشية تحريفه، بسبب اختلاف الألسن والثقافات في هذه المناطق.
و"مصحف عثمان" بدوره منسوخ من النسخة التي أمر سيدنا أبو بكر الصديق "رَضِيَ اللهُ عنه"، بجمعها من أوراق الجريد التي دوَّن بعض الصحابة، الوحيَ عليها، ومن صدور مَن حفظوه منهم عن النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
أي أن النص القرآني الموجود لدينا الآن، هو مأخوذ عن الصحابة عن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
عدالة الصحابة الكرام، هي أمر محل إجماع بين أهل السُّنَّة والجماعة
ولذلك؛ فإن عدالة الصحابة الكرام، هي أمر محل إجماع بين أهل السُّنَّة والجماعة.
وفي هذا يقول الإمام ابن الصلاح: "إن الأمة مُجْمِعَة على تعديل جميع الصحابة، ومَن لابَسَ الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتد بهم في الإجماع، إحسانًا للظنِّ بهم، ونظرًا إلى ما تَمَهَّد لهم من المآثر".
ويشير هنا الإمام ابن الصلاح، فيما نقله عنه الإمام الذهبي في "السِّيَر"، إلى النقطة الأهم في هذا الصدد؛ فيما يخص أهمية الإجماع على تعديل جميع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهي تفادي حدوث فوضى فكرية وفقهية، بل في العقيدة نفسها، لأن الطعن في عدلهم؛ يفسح المجال في الطعن في صحة ما رووه عن النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، والذي من بينه القرآن الكريم نفسه، كما تقدَّم، وليس الأمر يقتصر على السُّنَّة النبوية فحسب.
فيقول: "وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نَقَلَة الشريعة".
أما الإمام الإبياري، فيقول كما نقل عنه الإمام الزركشي في "البحر المحيط": "وليس المُراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية، وإنما المُراد قبول رواياتهم من غير تكلُّف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية".
وبالتالي؛ فلا مجال للتأكيد على فضل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، على الأمة، فهم من نقلوا ودونوا الوحي الإلهي، وسُنَّة المصطفى، وهما أصلا الشريعة الإسلامية، وفيهما أحكامها، وما هو خارج القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، إما اجتهاد منهما، أو قياس عليهما.
وبالتالي؛ يمكننا فهم حقيقة أهداف الحملات التي تُشنُّ من وقت لآخر على الصحابة؛ حيث هي جزء من حرب على العقيدة الإسلامية نفسها، أرادها أعداء الأمة، أن تمس صميم العقيدة نفسها وثوابتها الرئيسية.
يمكننا فهم حقيقة أهداف الحملات التي تُشنُّ من وقت لآخر على الصحابة؛ حيث هي جزء من حرب على العقيدة الإسلامية نفسها، أرادها أعداء الأمة، أن تمس صميم العقيدة نفسها وثوابتها الرئيسية
وكانت الحرب في البداية علنية، وعلى يد جيوش غازية، أرادت كسر دولة الإسلام في بدايتها، ثم تحولت إلى حرب دينية صريحة في عصر الحملات الصليبية، قبل أن تحمل مسميات أخرى، مثل حركة الكشوف الجغرافية التي تطورت إلى استعمار مباشر، دام خمسة قرون.
وطيلة هذه القرون؛ نعثر على وثائق عديدة تشير إلى مخططات عدة ترمي إلى فصل الأمة عن أصولها، وعلى رأسها القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية.
ومع وضوح عدم قدرة الاستعمار العسكري المباشر على الصمود في هذه المعركة، تم التحول إلى أدوات القوة الناعمة.
فتمت محاربة الإصلاحيين، كما جرى مع جمال الدين الأفغاني ورشيد الرضا، والعمل على نشر الأفكار العلمانية والليبرالية، تحت مسميات "التحديث" و"التنوير" و"العصرنة"، وتأسيس مراكز قوى لها في مجتمعاتنا العربية.
وتم ذلك بالأساس من خلال العائدين من البعثات الدراسية التي أوفدتها بعض الحكومات، مثل محمد علي باشا الكبير في مصر، وطبقة المثقفين والنخب السياسية التي ولدت وترعرعت على أعين الدول الاستعمارية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وبعد أن تخلصت الأمة من الاستعمار؛ بدأت هذه المراكز في التحرك، وكونت لنفسها أضلعًا قوية في الإعلام والفن والأدب، تمتعت بحماية الأنظمة الاستبداية التي رأت في التيار الإسلامي بديلاً حيًّا لها، يعكس هوية الأمة الحقيقية، ويمكن أن يزيحها من السلطة.
هذا التزاوج بين هذه التيارات وبين الأنظمة المستبدة الفاسدة، أسس لتيار قوي يحارب كل ما هو إسلامي، ووصل – كما رأينا في حالات مثل إبراهيم عيسى وإسلام البحيري – إلى المساس بصلب العقيدة؛ حيث لا يقف الأمر عن نقطة محاربة الإسلام السياسي وجماعاته.
تحتاج الأمة إلى جهد إعلامي وبحثي توثيقي واسع النطاق، يدحض مثل هذه المزاعم حول الصحابة، ويعرض الدور الحقيقي الذي لعبه الصحابة في الحفاظ على الشريعة ونشر الدعوة
هذه النقاط تطرح أهمية كبرى لإعادة اعتبار لفضل الصحابة على الأمة، من خلال جهد إعلامي وبحثي توثيقي واسع النطاق، يدحض مثل هذه المزاعم، ويعرض الدور الحقيقي الذي لعبه صحابة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، في:
- الحفاظ على شريعة الإسلام، بنصِّها وروحها.
- نشر الدعوة الإسلامية من خلال الفتوحات التي تمت في عهد الخلفاء الراشدين، وحتى النصف الثاني من عصر الدولة الأموية؛ حيث تُوفِّيَ آخر الصحابة الذين رأوا النبي الكريم، محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، والذي توفي في العام 102 هجرية، أي نحو 720 ميلادية.
- التراث الأخلاقي الذي تركوه في حياتهم وبعد مماتهم من خلال ما تم تدوينه عنهم في كتب السِّيَر والتراجُم، وكان منارة للحضارة الإنسانية بالكامل، بما في ذلك الحضارة الأوروبية التي لم تنكر أنها استفادت من هذا التراث.
ولا يُعتبر ذلك من نافلة الجهد البحثي أو ما شابه، وإنما هو أحد الأمور التي يمكن القول إنها أهم البنود التي يجب أن تضعها الحركة الإسلامية على أجندتها في وقتنا الراهن الذي تواجه فيه الدعوة هذه الحرب الضروس!